د. جاسم حسين الخالدي
لم يكن موضوع الحرب غريبًا على أدبنا العربي، فقد أخذت مكانتها في الشعر العربي على مرِّ عصوره، حتى صارت جزءًا رئيسًا من مفاصل بعض الأغراض الشعر كالمديح، والفخر والحماسة والرثاء، وقد ورث الأديب المعاصر هذه الثقافة؛ إذ لم يستطع على طول تاريخه المعاصر من الخروج من شرنقة الحرب والدكتاتورية وعنف السلطة إلى فضاءات الحياة والسلام، فلطالما وقع الشعب ضحية شبق الحكام للسلطة، ولذلك اشتدت شهوتهم إلى قمع كل صحوة شعبية، أو تمرد ورفض، ومن هنا امتدت شهوة هؤلاء لتدخل البلاد والعباد في أتون حروب وحصار وعنف سياسي لا مثيل لا في التاريخ المعاصر.
ولو فُتح ملف القصة العراقية لوجدنا أن الحرب وما نتج عنها من تداعيات كانت في طليعة الموضوعات التي وقف عندها القاص العراقي، فلو تجازونا ملف القصة في ثمانينيات القرن الماضي، إذ كانت الحرب الموضوع الأهم في المضامين القصصية، وإن كانت تلك الثيمة تدور دائمًا حول تزيين صورة الحرب، ونشدان التقدم فيها، والهوس في تبيان بشاعة العدو المفترض، فإن القصة العراقية بعد 2003م أخذت منحًى آخر، مغادرًا التعبئة التي كانت سائدة، وهو النوع الغالب على قصة الحرب العراقية؛ فقد اطلَّ القاص العراقي على الحرب من جانبها الإنساني، وهو ما تجسّد في نتاجات قصصية كثيرة، من بينها: مجموعة القاص عبد الستار البيضاني (مسلات) التي خصصها لمعالجة موضوع الحرب العراقية الايرانية، بعد زمن طويل على
انتهائها.
فوقوفه عند الموضوع مرة أخرى، يشير من طرف أو آخر إلى أن الحرب لم تنتهِ، فما زالت نيرانها تلتهم الأخضر واليابس، وهي إدانة لها، ولكلِّ حربٍ جديدة “فم الحرب الناري انفتح مرة اخرى والتهم الحشود التي تقف على شفتيه، تندفع الافواج والألوية لردم ذلك الفم بالدم والحديد”.
لقد كانت شخصياته على الأعم، وهي تبحث عن خلاص لها، تمزج الجدَّ بالهزل، والضحك بالبكاء، واليأس والتفاؤل، والرغبة في الحياة وعدمها؛ لتعبرَ عن مأساتها؛ إذ اختارها بعناية، فهي تنظر- دائما- الى ما حولها بعين الاستهزاء والسخرية، والشك والريبة، كما هي الحال لنظرتها الى الحياة كلها، فقد ولَّد طول الحرب يأسًا كبيرًا من الحياة، فلم يبق أمامها الا التفكير بالخلاص من موتها المحدق بها.
ومن المفيد التنويه – هنا- أن مسلات البيضاني، تكاد تكون مذكرات شخصية لكلِّ من فقد عمره في حربٍ عبثيةٍ، لذلك أقام بناءها السردي على دائرة الأحوال الشخصية، والنظر الى عنونة المسلات يؤكد هذا، (مسلة قابيل، مسلة الاصدقاء، مسلة الحب، مسلة الشجر، مسلة اللحظات المدببة، مسلة الوفاء، ومسلة الأمهات) من جهة، ومسرحة الأحداث من جهة أخرى، ويفسر هذا أن السارد العليم كان هو الحاكم على السرد كلِّه، وهو الذي يمسك بزمام الأمور، وأَمَّا الآخرون فلم يكن بوسعهم عمل أي شيء، من دون أن يكون لهم دورٌ سرديٌّ واضح.
وهو أمر جعل المسلات كلها، تكاد أن تكون انثيالاتٍ وآلامًا وأفكارًا وذكرياتٍ: مرةً وحلوةً، في آنٍ واحد، تؤرخ لحقبة تاريخية مازالت تثير شهوة المؤرخين والباحثين عن الحقيقة التاريخية. يقول: “طوال سنوات الحرب لا شيء أخشى مواجهته، مثلما أخشى اللحظة التي تودعني فيها جدتي عند ناصية الشارع يوم انتهاء اجازتي والعودة لجبهات القتال، فهي أصعب من مواجهة لحظة المرور عبر خندق من نار ورصاص، لذلك كنت أتفادى تلك اللحظة”.
وظاهر –هنا- قدرة الكاتب على تهيئة المتلقي لمقت الحرب من خلال تصويره مشهدًا يبيّنُ لحظةَ التحاقِه، وهو يموهُ على جَدتِه، كي لا يتملكه الشعورُ بالحزن لمفارقتها، واختياره الجَدة؛ لأنها تمثل خزانة عتيقة لحكايات لا تنتهي، وانها امتدادٌ لتلك الحكايات التي تريد الحرب أن تقطعها، فموته يعني توقف الدم في نسغ تلك الحكايات.
لقد وضع القاص نصب عينه، وهو يعالج الواقع العراقي، أنَّه غير معنيٍ بكتابة تاريخ هذا العهد، كما يعمل المؤرخ الذي يرصد الاحداث رصدًا حثيثًا، لا يترك صغيرة ولا كبيرة، الا ووقف عندها لعلمه أنه يكتب تاريخيًا واقعيًّا، لا حدثًا متخيلًا، بل من مهمات القاص، أن يكتب التاريخ بالطريقة التي يراها مناسبة، أو التي يسقط عليها رؤيته، لذلك وقف الكتاب العراقيون بإزاء موضوعة الحرب، موقفًا منافيًا لما عملوه في زمن الحرب وحتى بعد انتهائها، لأنهم كانوا واقعين تحت هيمنة السلطة التي توجه الثقافة بالطريقة التي تنسجم مع فلسفتها، وأهوائها السياسية.