د. كريم شغيدل
أثار الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت سؤال العلاقة بين الموروث والموهبة الفردية، في مقال ترجم للعربية ما لا يقل عن خمس مرات ما أثار اهتمام المثقفين العرب، وليس مستبعدا أن يكون السياب أو غيره من أبناء جيله قد اطلعوا على هذا المقال، ويرى الدكتور (محسن جاسم الموسوي) أنَّ “النصوص ليست (بلاغات) مستقلة، ولهذا تستعاد أدبيا قراءة (الموروث) و(الموهبة الفردية) لمعرفة حدود المشاركة الفردية داخل منظومات موروثة”
ونقف عند (بلند الحيدري) على موقف صريح من التراث “فكما أنَّ سقوطنا في التراث بمفهومه السلفي الجامد الذي يرفض التطور والتجديد خطر نؤاخذ عليه فإنَّ هجرانه واعتباره ماضياً منتهياً أشد خطراً لأنه سيوقعنا حتماً إلى شخصية مسطحة لا عمق لها ولا ظلال” ويؤكد الحيدري مردفاً “بأنَّ التراث وحده الذي يميز معاصرتنا ساعة لا ننظر إليه وكأنه متحف لمجموعة من المومياءات”، وعلى وفق هذه المنظورات المعتدلة يمكننا تصور علاقة حركة التجديد
بالتراث.
وذهب الناقد (فاضل ثامر) إلى أنَّ الحداثة الشعرية العربية مرّت بثلاث مراحل هي: المرحلة العقلانية، والمرحلة الرؤيوية، ثمَّ مرحلة المصالحة بين النزعتين، وهو الذي مايز بين قصيدتي الرواد وجيل الستينيات الذي أعقبهم فأطلق على الأولى “القصيدة التشكيلية- الدنيوية” وعلى الثانية “القصيدة الرؤيوية” إذ نجح الخمسينيون في الاعتماد على الصورة الإيحائية في خلق مناخ شعري من دون السقوط في الخطابية والمباشرة أو إثارة الانفعال المترسب في الأعماق، بينما عمد التيار الذي أعقبهم إلى الاستفزاز الشكلي والمضموني وإثارة مشاعر الغضب والسخط واعتماد ما يثير التساؤل والاستغراب، وبصرف النظر عمّا إذا كان (فاضل ثامر) منحازاً إلى جيله في الستينيات أم لا، فإنَّ التمايز بين نمطين لقصائد الحداثة لا يمتّ بصلة – على ما يبدو- للمراحل الثلاث التي أبرزها للحداثة العربية، إذ ليس بمقدورنا أن ننسب أيّاً من نمطي القصائد لمرحلة من مراحل الحداثة بصورة مطلقة وبحسب نظرة (فوزي كريم) على الرغم من تشديده على إفراغ التجربة الشعرية من محتوى الحداثة، فإنَّ الحركة الشعرية الحديثة كانت “فرصة رائعة لردم (الهوة) التي أثقلت الشعر
العربي، بين تجربة الشاعر المستلبة في داخله وبين النص الشعري الذي استحوذ عليه الشكل أو الصنعة،
وكان من أهم مظاهر التجديد الانتقال بالشعر من طور الصنعة اللفظية والإيقاعية إلى طور الأداء الشعري والرؤية، فقد صنعت التجربة أنموذجاً مؤثراً سرعان ما تمّت محاكاته ومجاراته و تطويره فلم “تكن ثورة السياب وجيله ثورة في العروض وحده، كما فهمها
معاصروه من النقاد، بل كانت قبل ذلك ثورة في المنظور والرؤية، لذلك فقد تقاسمها دافعان رؤيويان هما: الأيديولوجيا والأسطورة” كما يرى (سعيد الغانمي)، ونرى بأنَّ العاملين اللذين تقاسما التجربة لم يكونا منفصلين إذ غلب طابع التوظيف الأيديولوجي للأسطورة، ويرى الدكتور (إحسان عباس) أنَّ الذي ميّز هذه التجربة هو “أنَّ إيمانها بقيمة هذا التحول كان شمولياً لا محدوداً، وأنَّ أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا (...) أنَّ هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجمع التجربة الإنسانية إذا أريد التعبير عنها بالشعر”، وفي هذا الكلام شيء من التعميم، لأنَّ (نازك الملائكة) نفسها حذّرت من الحرية التي يمكن أن تتيحها التجربة، وانتقدت مَنْ اتخذوا من “الشعر الحر” مذهباً إذ تراجعت التجربة، فكراً وشعراً، كما لم يتوانَ السياب عن كتابة قصائد عمودية موغلة في الصنعة والتقليدية، ويقسّم عباس بحثه في “اتجاهات الشعر العربي المعاصر” إلى خمسة عوامل، يعدّها قوى كبرى لتحديد وجهات
الشعر هي:
• الموقف من الزمن (ومن ثم من الموت).
• الموقف من المدينة.
• الموقف من التراث.
• الموقف من الحب.
• الموقف من المجتمع.
ونرى أنَّ هذه العوامل قد أسهمت بحق في صياغة مسارات الشعر الحديث وتوجيهه لأنها أظهرت أبعاده الأيديولوجية التي غيّرت وظيفته الغرضية، ولسنا هنا بصدد التجليات الرؤيوية والجمالية أو التوظيفات والبنى التعبيرية، إنما حاولنا فقط إظهار البعد الثقافي للتجربة. وللحديث
صلة...