الفكرة في الفن.. الاشتغال والبُعد الجمالي

ثقافة 2023/05/14
...

 خضير الزيدي 


يحسب للفنون في الوقت الراهن أنَّها ذات تأثير بصري وفكري ولا يدور الشك حول آليَّات الاشتغال التي تتعامل بها، ولا ما يترشّح عن خطاب الفن أو تأكيد مظاهر المنجز الفني لكل عمل وفكرة جديدة يقدمها الفنان، لكن ما يلهب حماسنا أن الفكرة التي تمتثل لذواتنا وتقترب منا هي الأكثر التصاقنا بوجداننا وذاكرتنا، وربما تذهب العديد من الأعمال الفنيَّة لجهة النسيان فيأخذ عليها الزمن حساب الابتعاد عن ذاكرة المتلقي إلا أننا لا نستبعد أن نجد أعمالا تركيبيَّة أو مفاهيميَّة تبقى أمامنا لما تمتلكه من مدلول 

رمزي.

 وقد بيَّنت مراجعتنا لبعض منجزات الفنانين الشباب في الوقت الراهن أنّهم يمتثلون لغاية جمالية صرفة يتحقق في اشتغالهم عبر الرسم أو فن التركيب أو الأعمال المفاهيميَّة ما يؤتي ثماره ونتطلع لعظمة مراجعة أفكار تلك الاعمال، وهذا ما حدث في معرض جسام والموسوم بـ"قاع النهر" الذي قدمه في المعهد الثقافي الفرنسي في الرابع من مايو لهذا العام، والذي انجز مجموعة أعمال تركيبيَّة فضلاً عن الرسم في وحدة موضوعية متماسكة لم تخرج عن خطابها وتحدد لها سقف من الابداع البصري والتأثير الجمالي بما ينسجم ويقين الفنان من أن الفن يحمل سمة ثقافية ولحظة تنوير خالصة مما يجلب لمتلقي أعماله حقيقة مفادها أن الفن يتماشى مع أية فكرة إذا توفرت له قواعد وأسس قابلة للتوظيف وليس تكريسا لوجهة الوهم، وما يدور حوله من غايات. 

والملفت هنا أن المعرض بدت فيه الأعمال ذات سياق يقترب من الحكاية وهو موضع اهتمام الفنان لاعتقاده أن جوف النهر يضم ملحقات وأشياء الإنسان ولم يكن الاهمال السبب في جعلها تترسّب داخل النهر، بل ذهب منطق الفكرة إلى جعلها مركز انبثاق جمالي توزع في آلات موسيقية أو دراجة هوائية أو معدات ولوازم بيت احتاجها الإنسان ذات يوم، فضلا عن العملة المعدنية القديمة، وهذه العناصر بكل اختلافها انسجمت مع لون أحادي يقر بالاقتراب من الأخضر والذي يشير إلى الطحالب.

وهنا يتبين تجانس المتناقضات ومركز الانبثاق الجمالي لمنجز العمل بمعنى أننا نواجه حكايات وسردا ولوازم وزعت بطريقة منتظمة، لكنها في موضع مفاضلة جراء التلاعب  في التركيب والمعنى وهي سمة لم تبدُ شعورية بغرض ما تبدو ذات تأثير بنائي يعيد لنا قيمة الأشياء المفقودة ثقافيا فبدت معالم فكرته متبنية لطرح مقولة الانسجام بين الموضوعي والذاتي حتى مع فقدان القواسم المشتركة ومقابل كل ذلك نجد زياد جسام يمثل في تراكيبه نزعة تتبنى اشتغالا ثقافيا سيطيح بالرسم لحساب العمل التركيبي وبما يعزز من موهبته أنه ماهر في تشكيل وتوجيه مواد وخامات لها عوالمها الخاصة وقوامها الشكلي المبتعد عن التهكم. 

ربما يتبادر للذهن هكذا تساؤل ما القدرة الفنية والجمالية التي يمتلكها الفنان لإنتاج أعمال مركبة في وقت باتت الفنون تستدرجنا للمتخيل والغرائبي؟ قد يكون الجواب مرهونا بما هو متوفر من اجابات تقليدية بان لكل فنان وجهته واسلوبه وطريقة تفكير تختلف عن غيره، وهنا لا بدَّ من فعل مغاير وازاحة لكل تلك العلامات التي بدت جامدة ومترسّبة في ذاكرتنا.

ونحن نقف عند تكرار الاعمال وفكرتها مع تغيير بسيط، جسام حول مظاهر هيامه الشخصي مع مفردة النهر ورواسبه لينتج خطابا عبر تعامل مركب تتعيّن فيه الفكرة في مساحة موحدة وغير مضمرة، وربما في اثارة حية يستثنى منها التكرار في التعاطي مع تجربته وهذا ما يؤدي إلى تعبير وارتقاء بكل الوسائط المستخدمة في معرضه، نتلمس من كل ذلك أن إرادة هذا الفنان في إحياء وانتاج أعمال جديدة انما هي من لبنات فكرته الراسخة في وجدانه وموهبته التي تتعامل مع الجديد في حراك أسلوبي متغير لهذا تبدو تصورات الفن لديه ارتجالية في حين غدت رصانة أعماله تبشّر بفنان يتألق بتأسيس اسم تحتفظ به ذاكرتنا. 

الممارسة التي قدمها زياد جسام لم تحمل طلاسم ورموزاً معقدة كانت صريحة بعناصرها ومركباتها وبنائها والجميل في كل ذلك انها تتدفق جمالا بانفتاحها الصوري فقد عرت وجها غريبا من التعامل مع بعض الوحدات التي لها ارتباط بالإنسان إلا أن الفوز المحقق كان في المغامرة والتنقل بين وسائط وتقنيات مع التزام موضوعي له وحدته الدرامية، وما صنعه هذا الفنان في معرضه الاخير يذكرني بمقولة (بول كلي) (لا يوجد تعريف للطاقة الابداعية وستظل قوة الابداع بعد كل محاولات التحليل أمرا غامضا) واما إذا اردنا أن نبين قيمة ما استخدم من وسائط في معرضه قاع النهر فسنعود لمقولة بول كلي أيضا (اختيار تلك الوسائط يجب أن يتم بدرجة فائقة من الاعتدال أو التقشّف وهو الذي يوصلنا الى نظام الروح وليس تعدد أو كمية الأدوات) وهنا أقول كم سينطبق هذا القول على ما استخدمه جسام  من مواد وخامات ليجعل معرضه قائما في  

ذاكرتنا.