الكتابة في مكانٍ آخر

ثقافة 2023/05/14
...

  مظفر لامي

في حرفة الكتابة، لم يعد ثمة شك بأهمية التمرن والمشاركة المنتظمة في ورش تخصصيّة، تبعا لنوع المادة الكتابيّة المستهدفة. والمناهج المتقدمة في تعليم وصقل تقنيات الكتابة ليست حكرا على الكتابة الأدبيّة أو الأكاديميّة فقط بل شملت المراسلات بجميع أنواعها وكتابة الملخصات والمقالات الصحفية والتقارير الإخبارية...الخ. وهذه الحقيقة لم تنح فقط أولوية الموهبة، بل عززت الثقة بالكم الهائل من الأساليب، والتقنيات، والمعالجات، وطرق الاستقصاء والتفكير التي لا مجال للقابليات الفطرية الخام

أن تصمد من دونها.

وبالتأكيد لم تصبح تلك المؤسسات، التي تتقاضى أموالا ليست بالقليلة لقاء خدماتها، بهذه الأهمية، لو لم يكن سوق العمل الذي تذهب إليه النتاجات الكتابية، والنصوص بجميع أنواعها، يمتلك القدر الكافي من الرصانة والحرفية الفائقة التي تميز العمل الإبداعي المتميز عن الآخر الأقل جودة.

أي أن النسبة التي تدور حولها المنافسة، تقتصر على المستوى العالي من التقانة، ولا مجال للأعمال المقبولة والمتوسطة وما دونها أن يكون لها نصيب أو فرصة يعتد بها. 

في واقع آخر، يغيب فيه دور المؤسسات التي تؤهل الراغبين في احتراف الكتابة، ودور النشر الرصينة التي تكون مصدَّا أمام الاستسهال والتعاطي مع الفنون والأجناس الأدبيّة بقصور وانعدام خبرة، يتسع الفارق بين الهزيل والجيد من الأعمال للحد الذي تختفي فيه المعايير، وتضطرب الذائقة، وتتشابك الآراء بحدة، وهذا لا يحدث بسبب فقدان النخب لتأثيرها بل نتيجة لعلو صوت الركيك والهزيل الذي يسند من قبل جمهور، لا يرغب ببذل مجهود كافٍ للتعاطي بكفاءة مع النصوص والكتب بجميع حقولها. 

في العقود الأخيرة، أصبحنا في مواجهة غير مسبوقة مع هذا الاعتلال، نشاهد ونقرأ نتاجات تتنافس في تخطي الحدود الدنيا من متطلبات الصنعة التي تتصدى لها، تاركة فينا حيرة وتساؤلا عن مسببات هذا التردي الذي كون ظاهرة ملتبسة، خلّفت وما تزال آثارا على مستوى الذائقة يصعب محوها.

في السابق كنا نلحظ ندرة في كتاب القصة والرواية ونقرأ عن أزمة النصوص المسرحية، وتعسر الإنتاج السينمائي والتلفزيوني بسبب غياب السيناريو الجيد، فنعزو ذلك لأسباب فنية تتعلق بنصوص لا تتمكن من بلوغ مستوى الإجازة والتبني فتحجب عن التداول. 

أما الحال الآن، مع وفرة في أعمال، تجاز أو تفرض من قبل أصحابها، فنحن في مواجهة مع مشكلة تتعدى مهمة الناقد والفاحص للعمل المقدم، لأنها لاتؤدي بنا سوى لخيبة أو ربما لاستفزاز مزعج، وبدلاً عن ذلك، صار اهتمامنا مصوب نحو الوهم وسوء الفهم الذي يجعل أشخاصا، قد يمتلك البعض منهم خزينا علميا ومعرفيا جيدا، لكنهم يقدمون على مغامرة فنية أو أدبية هزيلة.

يسعفنا ميلان كونديرا في روايته (الحياة في مكان آخر) بشخصية (ياروميل) الذي تنسب له والدته صفة الشاعر منذ لحظة ولادته، ليضعنا في ترقب لكل ما يحدث داخل هذه القوقعة التي فرضتها نوازع متبادلة بين أم وطفلها ومن ثم بين شاب ومجتمع يرزح تحت ظل نظام شمولي. 

ولأن طبيعة سلوك الفرد وما ينتجه، حديثاً كان أو نصاً مكتوباً، هو مرآة لمضمره الداخلي، نلاحظ أن الراوي، من أجل وضع تفسيره لعلة وجود (شاعر) يتوارى جدبه الفني وضيق أفقه خلف لغة متكلفة، احتاج للتمعن في عناصر إنسانية جوهرية، منها العلاقة المركبة مع الجسد ومع الشريك، تأثير القدوة، العاطفة المتأزمة، أحلام اليقظة، العلاقة مع الفنون باعتبارها وسيلة إفصاح عن الذات. 

وكعينات لحصيلة هذا الاحتدام الداخلي، أدرج مقولات و نماذج مفترضة لقصائد، ربما تخفق الترجمة في توصيل دلالتها، ليتتبع التصورات المأزومة التي يدبجها ياروميل منذ نشأته الأولى عن العالم كي ينتزع الاعتراف والإعجاب، لكن تلك الاقتباسات لم تكن سوى صدى للتنامي المربك والمثقل بالتقاطعات الجمعية والذاتية التي تشكلت بها شخصية الشاعر.

والملاحظ هنا أن الروائي التشيكي، ما كان له أن يكتب هذه السيرة المطولة والمتشعبة في استقرائها النفسي والفكري، لو لم يحمل معه من بلده رواسب وشواهد لمثقفين، كتاب وفنانين، كانت أعمالهم شاهدا على خلل بنيوي في النشأة الأسريّة والمؤسساتيّة واستلاب وانصياع ذاتي للقمع وغياب الحريات.

توجه هذه الرواية وأعمال مشابهة غيرها أنظارنا لأهمية وضع توصيف دقيق لأنماط مختلفة من الإرباك المعرفي والقصور الفني وحتى الاضطراب النفسي التي تتمحور حولها المحاولات المتعثرة التي تستهدف تقديم عمل فني أو أدبي يدرج في السجل الحضاري لأمة أو بلد ما. 

وقد تكشف هذه المساعي مفاصل كثيرة في المؤسسات التربوية والاجتماعية والبنى الفكرية والإيديولوجية التي تقف بالضد من النشأة الصحية التي تنتظم فيها القدرات الذهنية والمواهب الفردية في فضاء رحب يتيح لها حرية التفكير والاستنتاج. 

والمتلقي النابه حين يطلع على مواطن ضعف فنية وفكرية في كم هائل من الأعمال، لا تلتبس عليه مسببات هذا التضامن الخاسر الذي تشترك فيه أوساط فنية وأدبية عريضة، ولا يعقد الآمال على انحسار قريب لهذا الإرباك، في ظل غياب تام للمعايير في دور النشر ومؤسسات الإنتاج، وانزواء وابتعاد مبرر من قبل النقاد بسبب ردود الأفعال المتشنجة التي تجابه نقودهم.

لكنه ربما يضع ثقته، من جديد، في الموهبة والميول الفطرية، شرط أن ينظر أصحابها بجدية لحرفة الكتابة، ويبذلون الجهد الكافي للتمرن والتزود بالمهارات من خلال المتاح في المناهج وفضاء تكنولوجيا المعلومات، وكذلك اعتماد القراءة كركن أساسي في تمثل وإنتاج الأفكار، قبل التفكير في الشروع بمشاريعهم الكتابيّة.