بصيرةُ الشعور وغريزةُ التفكير

ثقافة 2023/05/14
...

 مهند الخيكاني 

 

كثيرا ما يُسألُ الشاعر من قبل بعض القراء عن النصوص الحزينة، النصوص التي تتفتح فيها المآسي المعبرة عن الذات والموضوع، والموضوع المذوّت، والإجابة قد تختلف من شخص لآخر، ولكنّي أقول: حين يكتب بعضنا بسوداويّة طافحة من خلال نصوصه، لا يعني مطلقًا أننا ضد الحياة؛ إنما نحن ضد ما آلت إليه. 

نحن أعراض حياة مريضة، حياة مصابة بأمراض مزمنة، لم نرتضها كما هي، فأصبحنا لا إراديًا نكتب ما نكتب؛ لأننا نحسّ ما نحسّ. 

لسنا سوادويّين بالمعنى الذي يدعو الى إيقاف عجلة الحياة أو حتى إحداث ثقب فيها لتعطيلها، لسنا سيورانيّين أو شوبنهاوريّين أو تبّعًا لأحد أساتذة اليأس، على الرغم من بروق تلك الكآبة في شق ظلام الاعتيادية المفرط.

نحن سوداويون لأننا نعي بمقدار معين، يسمح لنا برؤية ما يجب أن تصبح عليه الحياة. 

نحن من سيجدنا الطبيب إن وجد، حين يودُّ الكشف عما تعانيه حياتنا، نحن الأعراض. 

نحن لسنا مجرد شعراء وكتّاب، نحن الجهاز المناعي لما تعنيه الحياة، واستنفارنا هو استجابة للخلل.

إذن، نحن لسنا بشرا عابرين؛ لأننا حسّاسون جدا أكثر من غيرنا لمثل هذا التدهور الفتّاك، وربما سبب اختلافنا يعود إلى جذور بايولوجية، أو تربوية، أو أننا بلغنا من الفهم ما أوصلنا إلى حالة نادرة من التطبيق، حالة تحدث حينما يعي الإنسان ما حوله بشكل أخّاذ وجارح، فينعكس على جسده ونفسه وسلوك 

حياته. 

عندما يتسرّب ما في رأسه من مواد معنوية خام اندلعت من محسوسات مازجت رواسب ذهنية في تلك الجمجمة، ثم تعود بشكل هجين، كمحسوسات ولكنها هذه المرة، محسوسات مصدَّرة وليست كما في أول دخولها، حين كانت في طور عملية استيراد، وأغلب الأحيان هي عملية غير مقصودة، تقود بعضها بعضا عبر أسباب وظروف ومناخات متشابكة، لتخلص إلى تلك النقطة ذات الوجهين، النقطة التي يمكن لنا أن نتصورها في هذا الموضع، على أنها تشبه مجسّمًا كرويًّا، مثقوبا من الوسط، يسمح بدخول وخروج ذرات عابرة وأخرى مقصودة وغيرها منجذبة الى الأساس الذي اكتملت حواشيه وأوساطه.

إذن، هكذا صُنعنا، وهكذا ولدنا في المرة الثانية، فكما ترون أنها عملية شاقة، يصعب تجاوزها كما لو أنها حدثٌ بدهيٌّ يجري في كل وقت، لا أبدا، الأمر أوسع من كونه تأثّرًا بنظرية أو نمط أو فيلسوف، أوسع إلى درجة أن الإنسان لا يصل إلى هذه المرتبة الداكنة من الظلمة بمفرده، إنما تقوده بصيرة المأساة وتجليات العتمة ثم يفتح إدراكه الهجين.

إنها أيضا الخلاصة لحشد من الادراكات السابقة، ربما يبدأ بنافذة، منغمسًا في الشعور المكثّف أو الذي تكثَّف مؤخرا، فيكمِّل تكوينه المعنوي، ويضع اللمسات الأخيرة له، قبل أن يخرج الى العشوائية، على أنه مزاج عشوائي منبوذ، وفي الحقيقة أن كلّا منهما في حالة من العشوائية، الحياة وذلك التكوين السوداويّ، إلا أن الفرق بينهما هو في نوع العشوائية وتنوعها لا غير، فالحياة عشوائية تم التكيف معها طوال قرون عبر التقاليد والأعراف والمدارس وشتى أنواع العقائد. 

إنها سيلٌ عملاق بسبب قدمِهِ وجذوره الراسخة، تحسّنت وتجمّلت صورته، فأصبح شيئًا آخر يجعلنا نفترض أن كل ما عداه هو مجرد نقيض ناتئ وعنصر منبوذ لا يمكنه دخول الجدول الدوريّ للحياة.