بواعث الحزن في شِعر سنية صالح

ثقافة 2023/05/14
...

  ملاك أشرف

تركت الشاعرة سنية صالح وراءها في أواخر القرن العشرين شعرا اعترافيًّا واضحا، ليسَ منمقا كثيرا ولا مزيفا كاذبا، ينقل التجربة الحياتيّة الخاصة كما هي من دون اشتغالات تغطي الحقيقة والطبيعة الأنثوية لديها؛ لذلك تميزت بجرأتها، صراحتها وتصويرها لوقائع صارخة وصادمة، وهو أمرٌ عتيق مطلوبٌ عندَ الغرب واستنكارٌ علني عند العرب. سنية مثل طائر الفينيق بلا شك، طائر معمر عجيب يجدد نفسه ذاتيًّا مرارا أي أنه يرتفع من رماد احتراق جسده، هكذا كانت سنية تحترق كي تضيء الحبيب ويولد من احتراقها شعرٌ ديناميٌّ على نحو برّاق وحزين. إذن ينبع رونق قصائدها من الاحتراق المدمر ويبدو شديد الصدق والرّوعة.

أفنت سنية صالح عُمرها في خدمةِ زوجها سيئ التّفاهم محمّد الماغوط، فراحَ شبابها بينَ إرضاء لهُ وسعيٍ لكسب الرّحمة والوداد المُغلف بالحنين، لَمْ تجنِ من كُلِّ هذا غير التّعب، الإرهاقِ والدّاء، يتجلّى ألمها في قصائدَ عدّةٍ كتبتها؛ لِتصفَ ما آلت إليهِ من واقعٍ هالكٍ مُتجهّم، يُمكن أن يُطلقَ عليها اسم الزّهرة الزنبقيّة الحنونة غير المحظوظة والبائسة، تنشدُ: «لهفتُك رمَّدتني/ وحريقي أضاءكَ/ جعلكَ أكثر تألّقًا من زنابق الماء».

هذهِ ليست المرَّة الأولى الّتي تُعلن فيها أنها لا تملك سوى البكاء النّاجم عن النّحيب والشّقاء والذّاكرة المُسَنَّنة، الّتي تستحسن الشّاعرة التّخلص منها ودفنها ذات يومٍ في الغاب، أمست تُشبه وضعها المنسيّ بالاحتراق ورائحة الوديان المتروكة المهجورة، فهي وحدها مَن غدت ضحيةً، نراها تقولُ في مقطوعاتٍ شِعريّة شجنة مُسترسلة هُنا وهُناك: «لا أملك سوى النّحيب/ حينَ أرحلُ في نهرِ التّعب/ في نهرٍ يحملُ رائحة الوديان المهجورة/ والأسفار الصّعبة/ حيث تحملُني المياه الذّهبية/ بكُلِّ أحزاني/ لأَدفن ذاكرتي في ترابِ الغابات».

نلحظُ الاستهلال بأسلوب النّفي وتشبيه عظمة التّعب بالنّهرِ المُتدفّق غير المُتوقف، حيث تستكمل مُردّدةً النّغمة المُحبطة: «أشمُّ رائحةَ احتراقي/ آتيةً من غابةِ الموت/ آتيةً تهدرُ على الدّروب/ وأَنا وحدي الضّحية».

كتبت سنيّة بدمائِها كي تتنفسَ قليلًا وتُداوي جزءًا من الأوجاع والتقرُّحات المُحيطة بالأعماقِ لاحقًا، جسّدت الكتابةُ وسيلةً من الوسائل العلاجيّة الشّفائيّة لداخلِها المُتشظي المُكتظّ بالفواجع؛ نتيجة بيئتها الجاهلة بمَن يتحلّى بالعذوبةِ، حلاوة الرّوح ورقّة المشاعر مع الحكمة الجذّابة الرّهيبة، البيئة الّتي تخشى المرأةَ المُماثلة لسنية وترتعبُ منها، رغمَ تظاهرها بالثّقافة والاهتمام بالشِّعر إلّا أنها تُحاربُ وتُعذب صاحب الموهبة المُتوهّجة، ويستفزها العمل المُتقن والمُنجز الصّاعق، لا سيّما أن كانت امرأة فنّانة كسنية تمامًا.

تغدو سنية الحالمة شمعةً هائلةً، تُنير النّاس وتحرسهُم من الصّدأ والاكتئاب المُكْفهر دومًا، يُقابلها هؤلاء فيما بعد بنكرانٍ قاسٍ وشتيمة. تذكرني مأساتها بما قالهُ الشّاعر عقيل عليّ سلفًا: «ما زلتُ وحدي/ وأنتم لستم بملاذي يا من أحبّبتكم/ آه، ما زلتُ وحدي/ الهواء الّذي يداعبُ أفكاري ما أثقلهُ/ وأفكاري تصرخُ/ وصراخها ما أوجعهُ».

استحضرَ الشّاعرُ سنية المُغتربة، انكسار الحلم وتبدلهُ وفقدان المأوى في هذا المقطع؛ بسبب عدم العناية من الحمقى المروّعين، الّذينَ لا يقدرونَ تكوينات تقتربُ من تكوينِ سنية صالح، أحبّت نجومًا على حدِّ تعبيرها تضيءُ لحظةً وتنطفِئُ إلى الأبد، أمّا أنا أرى أنها أحبّت ذئابًا فقط لكنها توهمتهم نجومًا عندما لَمْ تدنُ شيئًا فشيئًا منهم أو لَمْ تتماه معهم منذُ البدايةِ، أندفعت سريعًا فاحترقت بضياء مكانهم الخادع وفقدت بقاياها.

جابهت الحياةَ المُضنيّة المُظلمة وواجهت الموت بالشِّعر وذهنِها الحكيم، شكّلَ الشِّعرُ أملًا وعزاءً لا مُتناهيًّا لها، ألقت بكيانِها الجامح في قوالبه الشّاسعة، أنزلقت إلى فخهِ وتعلقت بهِ، مُشتكيةً فيهِ من الإذلال، الاضطراب والوحدة، تطلبُ تغييرًا ونجاةً كما لو أنها تفضفض لشخصٍ، تخبرهُ كيف لا صوت لها ولا أغاني، لعلَّهُ ينقذها وتنجو من النّسيان والذّبول يومًا ما.

ثمّة قصيدةٌ تُعالج تكسّر جناحيها وسقوطها، يصبحُ التّحليقُ مُستحيلًا إذ تتهاوى ببطءٍ وتوشك على الموتِ، قصيدة معنوّنة بـ (جذور الرّياح) من عنواناتها اللّافتة المُوسومة، الّتي تميّزت بها وسُمّيت على أثرِ شِعرها الخالص بالشِّعر الغنائيّ، جاءَ بينَ أسطُرها: «رياحُ البحرِ تخطفُ الأنفاس/ لكن الشّقاءَ خمرٌ مُعتّقة/ وهذهِ الفصول/ أبدًا هاربة إلى عالمِ التّراب/ ألملمُ جناحي، وأسقطُ/ كما تسقطُ رُؤوسُ الأزهار/ شاحبةً وبلا جذور/ صفراء آتية من خريفِ الأرض/ مسحورةً برياح البحر/ لن يحملني زورق

الرّجوع».

تطمحُ إلى إيصال العنف الّذي تقاومهُ من خلال رياح البحر الهوجاء فالبحر استعارة تصريحيّة عن شخصٍ غائبٍ لا ترغب بحضورهِ في القصيدةِ بصورةٍ علنيّة؛ لذا تستخدمُ فعل (تخطفُ) لِتبيّنَ القسوةَ والسّرقة عنوةً، ثُمَّ تُشبه سقوطها بأزهارِ الخريف الصّفراء الذّابلة وهو تشبيهٌ يُلائم تركيبتها وبدنها الذّاوي، تختمُها بقول إنها وحيدةٌ وليسَ من أحدٍ يُرافقها ويحمل ثقلها في الحياة، مُستعملةً كلمة (الزّورق) الدّال على الاحتضان والملاذ من أمواجِ البحر غير المُستقرّة الخطيرة.

 لَمْ تعش سنية صالح البهجةَ كاملةً لذلك لا تجيدُ الكتابةَ عنها إلّا ما ندر، تطغى على قصائدِها النّزعة الرُّومانسيّة والدّموع المُرتجفة خلفَ الكلماتِ كأنّها عالقةٌ بينَ خصلاتِ شَعرِها لتتسرّب بعد ذلكَ إلى قلبِها، تمضي قائلةً: «ها أنا أنزفُ.. أنزفُ/ من أَعمق الجراح/ وحياتي تسيلُ كالمياهِ الشّاردة/ والرّيح ما هدأت/ أبدًا ما هدأت».

سنية كالرّيحِ لَمْ تهدأ حياتها القلقة قط، ظلت مُتشردةً منفيّةً في وادٍ بعيد عن وادي الآخرين المُعاصرين لها، لَمْ تحصد شيئًا من مُناداتِها الدّائبة ولا حتّى سلوى طفيفة، كانَ الزّمانُ شحيحًا معها وعليهِ قالت:

 «لكن صراخي/ ما فعلَ شيئًا/ لا حربًا ولا سلمًا/ والرّبيع الّذي سميتهُ حُبًّا واندهاشًا/ رسا في أعماقِ البحر/ وكأنَّهُ السّفينةُ المُنتحرة».

كانت قصائدها مصحوبةً بألفاظٍ وثيماتٍ اغترابيّة ترمز إلى الهيجان، الذّعر والتّشتت مثل: البحر، الرّيح، اللّيل، الخريف وأوراقه المُصفرّة الّتي تنوب عن سنية وتشرح طبيعتها المُلتاعة وجميع الجهات السّوداء الّتي خانتها وأثقلت كاهلها.

لسنية أيدٍ موسيقيّة فريدة، تنسى ألحانها على الورقِ فتتحوّل بمرورِ الوقتِ بسبب الضّجر إلى مُفرداتٍ، تأمّل أن يقرأها فردٌ ويحييها بمدى أفسح من ذي قبل، يخلق منها عوالمَ وآفاقًا غير معقولةٍ أو مألوفة أوفر حظوةً من سنية المُهمّشة ذاتها، الماكثة في الظّلِ والقلاع المشيّدة المنزوية عن العالمِ، القيم الفحوليّة والفكر المقولب والمنابر!

صارت كتابةُ الشِّعر سخيةً كالنّسمةِ في القيظ وعوضت سنية صالح عن الحياةِ البخيلة الصّارمة غير الآبهة، الّتي فرضت أعباءها عليها منذُ نعومةِ أظافرها ولَمْ تبرح عن ظلمها لشبابِها مهما دعت الشّاعرة وتطلّعت إلى الهروبِ، أغنتها الكتابةُ وأخرت موتها إلى أمدٍ لا بأسَ بهِ، هي امرأةٌ لا تكف عن حُبِّ الشِّعر بمجرّد صدمة ضاربة تعرضت لها، بل تُخلدها من خلالِ استعاراته وكناياته، تطويها طي الأوراق وتواجه ما تبقى، حيث تُراهن على البقاءِ ولو لمُدَّةٍ زهيدة قادمة رغمَ امتلاء جسدها بالنَشِيج والبرد، سيّان عندها المُكابدة والاستسلام في مُحيطِها ريثما تموت بريحٍ عاتية، صفعتها في خريفِ العُمر.

عجيب كيف يؤخرُ الشِّعرُ مجيء الموت وكيف يؤثر في رحلةِ المرء الحياتيّة المُتلاطمة، محطّ تساؤل دائم ماهية الشِّعر وقدرته، يصيرُ مُتمكنًا بشكلٍ مُمتازٍ عندما يلتقي بشاعرٍ يحسبهُ ضرورةً ولا يستهين بوقعهِ الآسر، ممّا يرغم الشّاعر على بناءِ علاقة متينة معهُ، تسودها الفطنة، الأُلفة والتّعلق والإمعان في مُقتضياتهِ.

تعلقت سنية، خاملة الذّكر في الأجيال بالشِّعر المنثور وأصبحت مسكونةً فيهِ، اتخذتهُ سلاحًا لصدّ الرّصاص المُنهمر عليها. نتتبعُ مفاهيمَ وظفتها في الشِّعر ومُقترنة بأسلوبِها الأنيق وخسائرِها الأبديَّة المُوحشة، الّتي لا حصرَ لها، بما في ذلكَ ما ورد في باب (الهذيان) التّابع لمجموعتِها الشِّعريّة الكاملة: (دوشارا، إله الشّمس عندَ الأنباط/ والكارما، تقابل القدر في الدّيانات الهنديّة..)، تقولُ موظفةً الكارما: «كي لا أخونك يا كارما/ كي لا أتوغلَ أكثر وأكثر في الخيانةِ/ سأضرم هذهِ النّار/ لأنّك الألم الّذي يفتكُ بي».

لَمْ تنسَ سنية الوطن والأُم وعلى وجهِ الخصوص سورية، حظيت بمساحةٍ من كتاباتِها الشّاعريّة لكن الجوّ الضّبابيّ هيمن وانتشرَ على أراضي شِعرها المُبتكر؛ لذا بقيت تُردّدُ نمطًا من المعنى لا تنفك عنهُ وتعدّهُ ضربًا من ضروبِ وجودها الفعليّ، وهو نسقُ السّواد، الفناء والتّيار السّام، ذو الأثر الأقوى في بنيةِ جملها وحديثها مع كيانِها المُستَبعد، الّذي لا يتذوق سوى طعم الصّدأ، هذا المعنى أولتهُ حقّهُ كنوعٍ يمثّلُ الأنا المهمومة: «لن تري أحدًا إلّا الظّلام/ ولن يهبطَ سربٌ من النّجومِ الصّغيرة ليحرسَكِ/ لا شيءَ يُمكن فعلهُ أمامَ تيّارات الفناء/ فليله يتبعُكِ أينما سرتِ/ نيرانهُ تلتهمُكِ ولا صوت لخطواتهِ/ سيمتصُّكِ اللّيل شيئًا فشيئًا».

يجدر بي القول إنَّ سنية المُتشبثة بهاجسِ الموتِ برمتِها هي بمثابةِ مخطوطة شِعريّة محضة، وعلينا أن نسلّمَ بالأمر ونتبوّؤها مخطوطةً دراميّة، تتدلّى منها شذراتٍ بيضاءَ، تدنو كلماتها وتسقط مُكتسبةً دفئًا من الخيال، لن تتكرّرَ سنية البديعة ولن نتقنَ وصفها بطريقةٍ لؤلؤيّة رنّانة شئنا أم أبينا، عصية على التّحليلِ الدّقيق، التّفكيك المُراد للُغتِها الاحتِجاجيّة المكدودة والإطناب الجادّ المُحمّل بمعلوماتٍ مُدهشة عن أصالتِها وعن متاعبها الّتي لَمْ تنل سواها..

لن تأخذَ الشّاعرة الشّفافة حقها من الإطناب النقديّ أو الاهتمام الدّراسيّ في أيّ حقبةٍ مُرتقبة مُستقبلًا ولن تكونَ من الّذين اشتهروا في سجلِ الشِّعر والنّقد، لن ينالَ شِعرها التّراجيديّ استحقاقه أو يكون في موضع التفاتٍ واسع، من المُؤسفِ الاعتراف بهذا، بيد أنّهُ حقيقةٌ لا مفرَّ منها، الطّبقة الأديبة- كما تزعم- تقوم بالبحث عن شُعراء ساذجين بلا معرفةٍ عميقة مُلمة ولا رؤى شِعريّة رشيدة تُحسب لهم إلى جانب عقدة الغرب المُتأصّلة في قناعاتِهم، ليسَ لديهم أدنى فضول أو رغبة عارمة في اكتشاف شاعرات كسنية من منظورٍ جديد، إنَّ مَن كرّسَ نفسه شِعريًّا وأخلصَ للشِعر يُهمل ويُركن في زوايا قاتمة مُقفرة، يرصدها المُتبصِّرُ المُنصت بصعوبةٍ إلى صوتِ العذاب الوجوديّ وانطوائه، الّذي أنكرَهُ الإله وصفقَ باب السّماء على أملِ تجنبه.

لَمْ تجد سنية أمكنةً تحتويها وهذا أشدّ إيلامًا من أيّ شيءٍ آخرَ، أستثني الشِّعر وابنتيها شام وسلافة كأنَّهما من سماء حلم أسطوريّ بتعبيرِ شقيقتها خالدة سعيد، ولدت في الظّل أو كما قالت غريبة وعزلاء كالرّاهبةِ وماتت عاريّةً في الضّوءِ الباهت بعدما انجبت الدّواوين، الّتي بفضلِها ظلت حيّةً في نظرِ الكثيرين ومنكورة الأثر في آنٍ واحد.

تكاد تصوّر احتضارها العليل في قصيدتِها (احتضار المرأة): «لأنَّ السّماء أكثر تعاسةً من عيوننا/ والنّشيج يهزّ أعماقنا بالسّياط/ فنلوي رؤوسنا كالبجعِ الغريق/ المرأة متوجة بجراحِها/ والصّياد يطاردُ ظلّه/ الفارس يصطاد جراحه/ وأنتِ أبدًا يطاردك الموت/ بسيوفه الحزينة».