بانتظار لحظة وصول الضوء

ثقافة 2019/04/21
...

ياسين طه حافظ
 
 
ما كان الإنسان، عبر تاريخه، ليترك أثراً، فنياً، أدبياً، انجازاً مادياً لولا أنّه كان يريد وجوده الحقيقي، حضوره الإنساني، روحه ..، يريدها أن تحضر ليراها الناس، أن تبقى في الحياة، أن تكون معروفة لمن يأتي، ألّا تغيب أو تموت! هذا بالنسبة لناقش الكهوف، لاصحاب الكتابات الأولى، وتنوعها في التعبير عن مواجهة الأحداث وعلائقها القادرة على أن تترك أثراً في حياته أو ما يخشاه منها. أولئك جميعاً وبكل الصيغ عملوا على احضار، على تجسيد، على الإعلان عن الروح الإنسانية في زمانهم، وما واجهوا هم من ظروف وأحوال، لعل سواهم يرى، أو لكي يقول واحدهم : ذلك أنا! 

أحياناً، لكي يكشف روحه، أو روح عصره، يتماهى بشكل ديني، روحاني، مع ما يريد الكشف عنه أو حضوره. وقد عرفنا اشكالاً لهذي الحال في الفلسفة أو الكتابة أو في السلوك.
دراسة التحولات الأسلوبيَّة في التعبير تعطي صورة أخرى عن تلك المهمة الدائمة. وهذه كشفت وتكشف عن جماليات متعددة ومتنوعة وراءها المناخ الروحي للتجربة والرؤية والموقف الاجتماعي
 أحياناً..
ينفصل العلماء قليلاً عن ذواتهم في بحوثهم في التاريخ الأدبي او في تاريخ المجتمعات، وفي الفلسفة والتاريخ. في هذه يتضح أكثر ما يوحّدنا للوصول. تاريخ الأفكار هو خلاصة تاريخ الاحداث وتحولات البيئة ومواجهات الإنسان أو مِحَنهِ. لا ستارة تشف ولا مسافة تفصل أحياناً مثلما في التعبير بالأدب أو من خلال التوجهات الجمالية. وحجة أهل الأدب وأهل الفن أن الأفكار تكتمل في تلك البيئات الفنية، فهي العالم الذي تظل حية فيه، وهي حجة نرتضيها.
الأفكار، من ناحيتها، تمنح الأدب والفن امتياز الحضور خارج زمنهما، وتمنحهما قواماً يؤكد حضورهما في تاريخ الإنسانية، فيما مضى منه وما يأتي.
لم تخلق هذا الحضور الشعرية وحدها ولا الألوان والمهارات. لكنها تنبثق من بنى اجتماعية ودينية وفلسفية صنعت “نوع” الحياة في الظرف. 
فبالأفكار تكون الآداب والفنون نتاجات روح إنسانية، زامنت تفتح وحضور الافكار  وتمثلتها. الصفات الزمانية والمكانية والبحثية، بشكل مصطلحات، هي للتمييز ما بينها لا للتعبير عن مكنونها، والأفكار في أي زمن هي التي تخصب الارضية الأدبية ونحن نلمح الروح فقط حين ينضج الأثر وتزدهر فيه الأفكار.
نعم، يمكن للأعمال الأدبية الكبرى، وهي عادة تعتمد افكاراً وتتحرك بطاقة هذه الأفكار الخفية، يمكن لهذه الأعمال أن تعمل على تحويل هذه الافكار لأبعاد أخرى أو تجد لها صلات بافكار بعيدة عنها أو تعدلها لتناسب حضورنا
 الجديد.
 وفي هذا عمل فكري أيضاً أو وعي. العمل الكبير هو الذي يقدم كمية ضخمة من الافكار، أي يضعنا ضمن تاريخ الفكر الإنساني وديمومته من خلال انموذج الحياة المبتدع..
ما الذي نريده من هذا، ما الذي نسعى إليه، مفكرين أو كتاباً أو فنانين؟ نحن نريد أن نوجد لأرواحنا حضورا، كياناً غير قابل للتلف، نريد وجوداً مرئياً يُلمس عبر كتابات ولوحات وتماثيل. 
هذا المسعى وراءه حاجة إنسانية أبدية للالتقاء بالحياة والحضور الدائم فيها مع الأرواح 
الأخرى. 
لكي لا نشعر بالانقطاع الذي يسمى
 الموت.
 هي حاجتنا لأن نشعر نحن أو نشعر غيرنا بوجوده، بوجودنا في هذا العالم، في هذا الكون العجيب الشاسع أو في هذه المتاهة الكونية.
ضرورة الفكر لا حدود بارزة لها. نحن في حركتها أو مدها. ما نستطيعه فقط هو أن نعكس بعضاً منه ليكون لنا، منا، نحن له. تواصل حميم مع المعنى الابدي وتنوعاته وصوره. 
فلا واقع لنا إلا بهذا وإلا فنحن بعض من اللاحياة. الاهم بالنسبة لنا، الامتياز العظيم، هو ان فهمنا الجزئي، فكرنا، هو بعض من ذلك السرمدي. نحن في اعمالنا الأدبية أو الفنية أو في انجازاتنا الهندسية ذوات الامتياز أو الابداع، نكون في محاولة ألّا نفنى، ان تكون لنا صلة، تماس مع ذلك الأبدي الذي لا بداية له ولا نهاية، وتماسنا أو انتماؤنا اللحظوي قد لا يكون دائماً مع آخر ما وصل من ذلك البعيد. ربما مع البعيد الذي غاب، مع ما كان ولا يذكره أحد. ربما مع الذي لم يبتعد كثيراً والذي وصل توّاً ونراه أول مرة. هكذا هي أفكارنا ليست دائماً إلى أمام، قد ترجع بنا، وقد تكون لنا رفقة قصيرة بها أو قد تسكننا سنن. 
هي عموماً، كلها من ذلك المجرى الذي بدأ ولن ينتهي إلّا بانتهاء الوجود البشري على الكوكب. هي الديمومة العظيمة التي ترسم عظمة الإنسان.
كلنا، نتطلع لأن نتملك أو نحظى بلحظة الاتصال مع الأكثر اضاءة، الأكثر سطوعاً فيه. لماذا؟ لأنّ أصحاب قدرة “ضبط الوقت”، القادرين على ادراك لحظة وصول الضوء، هم الذين يحظون بنوره، بإضاءته لهم! النص العظيم، اللوحة العظيمة، المنجز المعماري أو النحتي العظيم يمتلك قبْسَةً من ذلك الضوء الازلي، الكوني، من فكر الإنسانية الذي لا يخبو. فحينما ادركوا لحظة وصول ذاك الضوء مسّهم بمجده 
أو خلوده.