كفاح وتوت في المشغلين الشعري والمسرحي

ثقافة 2023/05/14
...

  عادل الصويري

هناك لذة غريبة يشعر بها الشاعر في اللحظة التي يقرر فيها مهادنة العزلة؛ ليشعر بمزيد من القلق المنتج. إنها لذة النفاذ من ضيق صحراء المتشابه، إلى فضاءات القلق الشاسع، حيث يعانقها الشاعرُ بترحاله وتنقله منتشياً بوحدته، وألفته مع عناصر التوحد الجمالي.

وقد أدرك الشاعر كفاح وتوت، المقدود من الخيالات الكربلائية المتنوعة، أهمية المساحة الشاسعة لقلقه، وضرورة التحرك التأملي فيها، واصطياد ما تقع عيناه من رؤىً وتصورات. 

كل ذلك من أجل الهروب من ضيق الصحراء الفارغة من ملامح الهم الإنساني، إلى كل ما من شأنه محاورة الهم المشترك، عبر إدخاله في ورشته الشعرية، ومشغله المسرحي؛ ليقدم لنا نُصوصاً منسجمة ومتوازنة شكلاً ومضموناً، وتنتمي إلى عتباتها النصية، غير منفصلة عن رؤاها ولم تشغله قضية الشكل الشعري مطلقاً، لأنه يؤمن بخلود الروح، وفناء الجسد.

الإيقاع عند كفاح وتوت غير معني بتقسيم النقاد له إلى: داخلي وخارجي، فهو إيقاع ذهني يحرض على التفكر: «قالوا: لا تطلقْ شَفَتَيْكَ فراشةَ صُبْحٍ/ تتراقَصُ في صَخَبِ الليلِ الأسودْ/ فالليلُ الأسودُ مملكةُ الذئب» / مجموعة إيقاعات الرعد».

ولأنَّهُ مسرحيٌّ تجريبيٌّ؛ فإنَّهُ يترك لتجريبه حرية تنوع الإيقاعات داخل النص الواحد، وهذا اشتغال شبه يقيني عند متبني الحداثة الشعرية؛ حيث اعتقدوا وهم محقون في ذلك برأيي من ناحية قصائدهم التي كانت عبارة عن مطوّلات شعرية، وأن الالتزام بنمط إيقاعي واحد، حتى وإن غابت عنه التقفية؛ سيبقى مع طول القصيدةِ شيئاً يبعث على الرتابة. 

لذلك لجأ كفاح وتوت إلى تغيير الإيقاع، بل وتغيير الشكل الشعري في القصيدة الواحدة؛ لخلق حالة من التموج، وكأنَّ القارئ يشعر مع هذه التنقلات بحالة من إطفاء الأضواء وإشعالها على خشبة المسرح: «شَقَّ صحراءَ أيّامِهِ/ أيّ روحٍ يا لأشجاره نهضتْ من رُكامْ/ نَهَراً يرى إنْ جَفَّتِ الأزمانُ/ حينَ التصحُّرُ روحُهُ بُستانُ/ كم كانَ يُرْهِقُهُ السرابْ/ في وجههِ الإنسانُ يجري مثلَ نهرٍ في اليبابْ» / مجموعة قلقي شاسع صحراؤكَ ضيقة». 

فهو في قصيدته (فراتي المدى) يتنقل من المتدارك (تفعيلة)، إلى الكامل (عمودياً)، ثم إلى مجزوء الكامل (تفعيلة مُقفّاة). 

وكم كنت أتمنى لو جاء هذا الاشتغال في قصيدة واحدة مطوّلة؛ حتى لا تنقطع سلسلة تفكير القارئ بين قصيدةٍ وأخرى، فمثل هذا الاشتغال الجميل سينخدش لو جاء على شكل مقاطع في قصائد متفرقة ولا يربطها خيط رؤيوي وفلسفي، حتى وإن تكرر في أكثر من قصيدة، فإنّ القارئ سيشعر بالدوار بين التنقل الإيقاعي، وبين مناخ كل قصيدة على حدة.

لكن هذا الدوار سيتلاشى حتماً لو جاء التنقل في مطوّلة شعرية تعتمد مناخاً واحداً، حتى وإن تعددت فيه الرؤى والتصورات؛ لأن القارئ سيكون ممسكاً بمناخها، فيكون تجواله بين الإيقاعات المُمَوَّجة رحلة ممتعة.

وحتى في الصورة الشعرية لا يميل وتوت إلى خلقها بوصفها غايةً، بل يحاول أن يعيد تشكيلها عبر الإمكانات التي تتيحها اللغة، فيكون شاعراً لقضية واقعيَّة بأسلوب فنّي، وبقدر المستطاع يبتعد عن الراكد من المعجم، فالصورة عنده تأتي لا من دلالات الألفاظ منفصلة، بل من دلالة السياق الشعري الذي خُلِقت فيه، والذي غالباً ما يأتي مسرحياً واستبطانيّاً مشحوناً بالدراما والتجريد: «ربّاه/ ما هذا الرملُ المتساقطُ من جبلِ التاريخ/ والدودُ الذي يتسرّبُ مِنَ السَقْف؟

كانَ جدّي قمّةً بلا نظّارات، وظَهْراً بلا عكّاز/ في عينيه ماس البصيرة، كان مرتكزاً كعنادِ القصب» / مجموعة إعادة تشكيل».

في هذا المقطع أرى وتوت - عبر اللغة -  ممثلاً في عرض مونودراما مسرحي يتحدث إلى جمهور، ويحاول النفاذ إلى الأحلام المركونة في الرؤوسِ محاولاً إيجازَها على نحو يقترب من الذهنية، فهو الوحيد الذي يرى الرمل يتساقط من التواريخ التي لم تجلب للإنسانية سوى صفحات صفراء مزورة، تتحول إلى حروب تجعل الحكمة مستسلمةً لعكاز غير موجود. 

وهو الوحيد أيضاً على خشبة المسرح يخاطب جمهوراً يعاني العزلة هو أيضاً عن كل مظاهر البهجة.

وتوت في هذا الاشتغال الذهني يدوّن تمرّده وقفزه على السائد، فليس من المنطقي عنده اختزال التجربة الابداعية في شعر يُقرأ لمرة واحدة، أو عرض مسرحي يُشاهد لمرة واحدة. 

هذا التدوين يستلزم الحذر والوعي؛ لأن المبدع سيكون في صراع حاد بين الـ (أنا) وما رافقها من تفاصيل وأحداث يومية، وضغوطات الهم العام الذي تشكل يوميات المبدع جزءاً لا ينفصل عنها من جهة، وبين الآلية التي يُقدم بها مدوّنته المنتمية لكل هذه التفاصيل، والتي تستلزم إيقاعات الرعد، وإعادة تشكيل، وصولاً إلى القلق الشاسع بعد نجاح الهروب من الصحراء الضيقة، ليكون بين ظلال الشجر الذي لا يبدو أنه سيكتفي به.