ياسين النصير
أصبح مفهوم الشبكة طريقة إجرائيّة لبنية أي عمل، طريقة يمكن تطبيقها على المؤسسات، والنصوص، والأفكار، والأشخاص، وتأخذ سمة العلائق المُنَظِمة بين جهات تبدو متباعدة، وهو ما يدل على أن أي شيء لايوجد دون آخر، بل هو نتيجة لتفاعل مجموعة خيوط تنتظم لأداء مهمة، فأية فكرة لن تكون أحادية، لها ماقبلها، ولها ذاتها، ولها ما تؤول إليه، فالأمر لايعدو أن يكون مسارًا لشبكة متضافرة العيون والحواشي، يمكن أن تصطاد عبرها افكارًا، ويمكن أن تسرب عبر عيونها افكارًا لا توائمها. الفكر، العمل، الذات، الحياة، النص، ليست إلّا كيانات وجدت نتيجة لشبكة متنوعة المسارات، لتؤلف نسيج حياتنا منذ الولادة وحتى مصائرنا الكونية، شبكة بمجالات صالحة للتجدد، وإلا أكلتنا بِقدَمها، وجرتنا حيث تذوي خيوطها إلى العدم.
كي يكون الحديث عن شبكة العيش واضحًا، هناك ثلاثة اشكال للممارسة المادية لتحقيقها. يعين الفلاسفة (الخبرة) كممارسة أولى، لا يمكن العيش دون خبرة، لا يكتب النص دون دراية بما يتطلبه، الخبرة نتيجة تراكم أفعال فيها متن للأخطاء وللصواب، كي تكون خبيرًا، عليك أن تبقى في تجربة دائمية. الشكل الثاني للممارسة هو التمثيل الذي يُعين بـ (الإدراك)، لاتسير خطوة إلا وأن يكون لها قرين سابق، ولا يدرك الشيء دون قواعد تمنهجه، والشكل الثالث للممارسة هو (الخيال)، اي تكسو تجربتك خيالًا، كي ترى ما لم تره في اشكال الحياة اليومية.
يعود اعتماد البنية الثالثة، إلى التفكير المنهجي لما بعد الحداثة، وهو التفكير الذي يلغي التصور الثنائي أن الحياة عبارة عن بنية (حياة/موت) والتي طبعت تفكير وفلسفة عصر الحداثة كله. البنية الثالثة تدعو الى توسيع الفكر بالأشياء وحالاتها المتغيرة. فالماء ليس سائلا، فقد يكون صلبا أو بخارا، وقد يكون نارا كما يكون ترابا، كذلك الإنسان ليس بحال واحدة، ولا بلغة منطوقة واحدة،، جذوره المختلفة تعني تنوع مرجعياته. فالخبرة تعني استمرار التجربة، كي يكتب المؤلف نصًا، عليه ان لا يفكر ببدايته ونهايته قبل البدء، بل ان ما يحدده هو مسار
التجريب فيه.
حتى وهو ينتهي إلى حدود، التجريب هو التفكير بالحركة الدائمة، وليس من نقاط نهائية للتجربة. ويوسع الأساس الثاني خبرة العمل، بإضافة الإدراك الحسي للأفكار التي يقوم عليها البناء الفني، فالإدراك هو التكوين الذي يعين فيه المسافات، بين تجارب متشابهة ومختلفة فاختيار الزوايا ليس بمثل اختيار السقوف والجدران، خاصة في مواضعات اللغة مكانيًا. والإدراك يضع الخرائط لعمل يوصل ويتصل بغيره، وان يؤسس لقواعد محلية، وان يبني سياسته وافكاره على اساس انه جزء من الفعل الثقافي. أما الاساس الثالث للشبكة الفكرية لأي مشروع، فهو التخييل، أي أن يكون للفكرة أبعادًا متخيلة تتخللها مرجعيات من تجارب قديمة وتفتح افقها على فضاءات جديدة، وان ترتبط بالمتخيل المستقبلي، وأن لا تركن إلى قناعات
مسبقة.
في اطار ما يسمى”شبكة” نصنع نسيج حياتنا، التي هي عبارة عن نص مفتوح، نستعير له خيوطا ملونة من تجارب أخرى، ونؤسس لأنفسنا خيوطا عبر محليتنا، لا تجربة دون تطعيم، ولا نتائج دون ان ترسو على أرض نعرفها، ليس النص عالما متوهما، ولا هو تكرار لواقعة طبيعية، كما أنه ليس ذلك الذي يكتفي بقراء واحدة، ولا تجده في مكتبات الآخرين باعتباره انتهى حيث يعود الموتى ترابا. حياتنا، نص بخيوط متجددة، وعلينا أن ندرك أن هذا النص لن يكتبه غيرنا.