بين نوتردام والميزوبوتاميا

آراء 2019/04/21
...

محمد شريف أبو ميسم 

بين كاتدرائية نوتردام التي اكتمل بناؤها في العام 1260 ميلادية والميزوبوتاميا التي بدأ منها التاريخ بوصفها المنطلق الأول للحضارات الإنسانية، ثمة مشتركٌ يتخطى البعد المادي للتاريخ الى مساحة البعد الإنساني الغائر في دالة الأثر.
فعلى الرغم من الفارق الزمني بين حضارة ما بين النهرين التي طالت آثارها معاول التدمير والتجريف وقنابل التفجير على يد الإرهاب في الموصل وآلة الاحتلال الأميركي على الأراضي الهشة في السهل الرسوبي، وبين صيرورة كاتدرائية نوتردام التي طالها حريق أثناء خضوعها للتجديد والترميم، في منتصف نيسان الحالي، إلا أنَّ الألم الإنساني هنا لا يخضع للكيل بمكيالين إزاء الإحساس بالوجع الناجم عن ضياع كنوز تستحضر مراحل التاريخ وتعيدُ تجلياتها بمجرد المثول أمام سيادة الإرث وسلطانه الذي ينهال على الأخيلة في عناقٍ مع لحظة المشاهدة وهي تختزل الأزمنة وتحفظها من التلف.
وتحت هول الصدمة التي تعرض لها العالم وتحديداً المعنيين بشؤون السياحة والآثار الدينية لما تشكله الكاتدرائية من أهمية بالغة في التاريخ الفرنسي، لفتت وسائل إعلام وجهات مختصة الى وجود اتفاقيات دولية وواجبات رسمية تلزم المؤسسات المعنية بهذا الشأن وفي مقدمتها اليونسكو وتدعو دول العالم المتحضر لتقديم يد العون في مثل هكذا أحداثٍ تُلحقُ الضررَ بالتراث الإنساني، ومن الرائع أنْ يقف العالم أجمع مع الفرنسيين بين متبرعٍ بالمال وبين من يقدم خبراته من دون مقابل للعمل على إعادة الروح التاريخية لما تسببت به النيران. ومن الرائع أيضاً أنْ يقف المثقف العراقي ليعيد إنتاج ما تلاقفته وسائل الإعلام ليثبت أهليته الثقافية واهتماماته السياحية، داعياً في صلواته الثقافية الى الوقوف مع الحكومة الفرنسية، وهنا ينبلجُ مفترق عن المشترك. مفترق ينذر بالكيل بمكيالين.
فعلى الرغم من زوال داعش وعودة الأمن الى الموصل وسواها من المدن العراقية التي تعرضت آثارها الى الدمار، لم نشهد دعوات جادة لمعالجة آثار الكارثة التي لحقت بالتراث الإنساني على أرض الميزوبوتاميا. الكارثة التي كشفت عن خطة ممنهجة لتدمير تراث العراق، فبجانب الصمت الذي حف بأحداث تدمير مدينة الحضر منذ العام 2015 بالمتفجرات والجرافات ومدينة النمرود التي تأسست في القرن الثالث عشر قبل الميلاد وهي درة الامبراطورية الآشورية وإحراق آلاف الكتب والمخطوطات النادرة في مكتبة المدينة لم نسمع بدعوة واحدة لتطبيق اتفاقية لاهاي التي أقرَّت عام 1954 والتي تلزم الجهات الدولية بحماية الممتلكات الثقافية في النزاعات المسلحة، واستمرت الحال على ما هي عليه الآن، من دون وقفة جادة للجهات الرسميَّة والثقافيَّة لتذكير العالم بأهمية هذا التراث الذي يثبت عظمة أبناء ما بين النهرين ويقدم الدليل المادي على أسبق ية هذا الشعب في صنع الحياة وبناء الحضارات، ليكون هذا الصمت جزءاً من هدف الذين وقفوا وراء داعش وهي تستهدف وبشكل غير مبرر كل دالة تثبتُ وبشكلٍ قاطعٍ وجود أقوامٍ سكنت هذه الأرض سوى أبناء ما بين النهرين.