إفلاطون العراقي

آراء 2023/05/15
...

  عبدالزهرة محمد الهنداوي

قبل نحو خمسة عشر عاما كنت في زيارة إلى سيئول، تلبيةً لدعوة من الحكومة الكورية، والدعوة جاءت بعد مقال كتبته في إحدى صحفنا، تحدثت في جزء منه عن نجاح هذا البلد تنمويا، ولم أكن أعلم أن سفارتهم في بغداد.

تتابع ما يُنشر في الصحف العراقية، ويقدمون به موقفا إلى حكومتهم، ويبدو أن المقال راقٍ لهم، لأنه يتحدث عما تحقق في كوريا وكيف أصبحت هذه الدولة تمثل رقما مهما في المعادلة العالمية، وعلى اثر ذلك المقال تلقيت الدعوة لزيارة سيئول، وفعلا ذهبت إلى هناك وأمضيت نحو اسبوعين بضيافتهم، وكانوا قد وجهوا الدعوات في ذات الوقت لصحفيين واعلاميين عرب، يعدهم الكوريون أصدقاء لهم..

لا أريد أن أخوض في تفاصيل تلك الزيارة لأني في حينها كتبت سلسلة مقالات حملت عنوان (التجربة الكورية)، ولكن ما زلت أتذكر موقفا حدث لي مع بائعة كورية تعمل في محل لبيع الملابس الرجالية، دخلت إلى المتجر مع عدد من الزملاء العرب، كنت أقلّب قطعة ملابس، ولكنها لم تعجبني كثيرا، فبدرت مني حركة سلبية، رصدتها البائعة! فكانت ردة فعلها عنيفة تجاهي، وتحدثت باللغة الكورية كلاما لم أفهمه، ولكن من خلال انفعالها عرفت انها كانت منزعجة من تصرفي، لاني في نظرها اسئتُ إلى صناعة بلدها، التي تفتخر بها كثيرا.

موقف البائعة الكورية هذا أتذكره دائما، وأنا أتابع واقرأ مواقف بعض من العراقيين، لا سيما من النخبة، وكيف يجلدون بلدهم بقسوة متناهية، فيصورونه وكأنه إحدى غابات افريقيا، ويلصقون به كل ماهو سيئ، لدرجة أنهم يتناقلون مقاطع فيديوية سيئة حدثت في بلدان اخرى، ويقولون إنها وقعت في العراق، فيتناقلها الآخرون ويعدّونها حقائق لاتقبل الشك!، ومن يسمعهم أو يقرأ ما يكتبون، يتبادر إلى ذهنه أن الحياة في هذا البلد سوداء قاتمة، وليس ثمة بصيص نور في تلك الغابة المظلمة.

وهنا لا أريد أن ارسم صورة افلاطونية للمشهد، وكأن الجو ربيع والدنيا بمبي كما يقولون، أو أقول إن لدينا صناعة تضاهي نظيرتها الكورية! فلا أحد ينكر، إن البلد مرّ بظروف ومشكلات مركبة، في الكثير من المفاصل، السياسية، والاقتصادية، والخدماتية، ومشاكل اجتماعية.. إلخ.

نعم لدينا وزراء اخفقوا وفشلوا، ومسؤولون افسدوا في فترات متعاقبة، صحيح لدينا فساد كبير، نعم لدينا سلاح منفلت، وغير ذلك الكثير من المشكلات، ولكن ايضا علينا ألا ننسى ما واجهه البلد من تحديات لم تكن سهلة، لو تعرض لها أي بلد اخر، ربما لانهار وتلاشى..

وعندما اتحدث بهذه اللغة، فليس القصد من هذا الكلام، التغطية على كل تلك المشكلات، أو لتبرير الاخفاقات وتبييض المشهد، بقدر ما أريد أن أقول إن وضعنا ليس بهذه الكمية من السوداوية، ولعل خليجي ٢٥ كشفت الكثير من مناطق الضوء، التي نسعى لاطفائها بسياطنا ونحن نجلد كل شيء في هذا الوطن بلا رحمة، كما أن ما تشهده الكثير من المحافظات من نهضة وعمران وتحسن في مستوى الخدمات، يؤكد أن الوضع ليس بهذا السوء، فضلا عمّا تبذله الحكومة من جهود كبيرة على جميع المستويات لتغيير المشهد، حيث بدأت مناطق الضوء تتسع، وعلامات التغيير تتوالى في الظهور. 

ومن هنا أقول، إن معالجة المشكلات ومواجهة التحديات، لا تتحققان بسياط الجلد، إنما من خلال التفكير بالحلول الممكنة، فجلد الذات اكثر من اللازم يعد مؤشر فشل وليس مؤشرا للنجاح.. ولكن يمكننا أن نوجه النقد من اجل تقييم وتقويم المسارات.

ارحموا العراق، وخففوا من جلده لعله يفلح وتفلحون.