كراهية الفلسفة

آراء 2023/05/15
...

  رعد أطياف


معظم من يشكون من صعوبة الفلسفة وغموض مفاهيمها هم على الأرجح، لم يعِدّوا العِدّة الكافية لولوج عالمها الشاسع. ولعلها شكاوى فارغة من أي مضمون ولا تنطلق من همّ معرفي حقيقي بقدر ما هي ثرثرة مزعجة وخطاب شعبوي طالما برع فيه الرأي العام ضد كل من يحاول أن يزعزع ملاذاته الآمنة. 

حينما نسمع مثل هذه الصرخات المنّفرة ضد الفلسفة علينا أن نفتّش عن منابعها الحقيقية، فأغلب الظن سنجدها تنطلق من وراء حصون الرأي العام. فالتحرر الحقيقي يبدأ من عبور المد الحماسي الذي يثيره عادة الرأي العام. إذ لا يمكن لأي أمر عظيم، بحسب هيجل، أن يكون ما لم يتحرر من الرأي العام ومن ثم ستكون آراء الفيلسوف هي أحد تحيّزات الرأي العام لاحقًا. 

بمعنى أن الفيلسوف لا يتفلسف، في كثير من الأحيان، لعصره، وقد يظل منبوذاً ومغضوب عليه من الناس لعدة أجيال- كما حدث مع نيتشة-، لكن في نهاية المطاف سيكون فيلسوفهم المفضل، مثلما انكبّت الأجيال المعاصرة على فلسفة نيتشة ووجدت تطلّعاتها في نصوص هذا الفيلسوف الإشكالي.

 الفيلسوف لا يعبأ بصراخات الرأي العام؛ فلكلٍ منهما سياقه الخاص، ومن الاستحالة بمكان أن يفهم الناس لغة الفلاسفة للفارق الكبير بين نوعية المصادر التي يلجأ لها عموم الناس، وبين الحفريات العميقة التي يكابدها الفلاسفة وهم يبدعون مفاهيمهم. والطريف في الأمر أن الناس يتفقون بشكل مباشر على ضرورة التدرّج في كل علم وفن، لكنّهم لا يتنازلون عن عدوانيتهم تجاه الفلسفة لو ذكّرتهم بضرورة التدرج لفهمها.

 يتصدّى هيجل لادعاءات الناس بخصوص غموض اللغة الفلسفية بفكرة طريفة، مفادها بأنهم يسلّمون بفكرة التعلّم التدريجي في أي حرفة أو فن آخر، فلو سألت أي واحد منهم هذا السؤال: كيف تبرع في صناعة الأحذية فبالتأكيد سيجيبك بضرورة تعلّم صناعتها والتمرّن عليها. ومع أنك تعلم جيداً أن لكل إنسان مقاسا خاصا لقدميه، وأنه يمتلك المواهب اللازمة في يديه لتعلّم هذه الحرفة، بيد أن تلك المقدمات لا تعفيه عن ضرورة التعلّم والتمرين على حيازة هذه الحرفة. 

ويظهر مما تقدم أن الناس حريصون أشد الحرص على الاتفاق مع هذه التجارب الحياتية والإمضاء على الأدلة التي تساق في هذا الصدد، فضلاً عن التجارب الحياتية التي يجربونها باستمرار، لكنّهم يتناسون هذه الأمثلة ومدى انطباقها على تعلّم الفلسفة. 

كل شيء يمكنهم أن يمضوا عليه إلا التمرين العقلي، فهو يبقى عدوهم ومصدر نفورهم، ويمكنهم أن يتفقوا معك على الخطوات اللازمة على صناعة حذاء غير أنهم يصابون بنفور شديد، لو طالبتهم بالمران العقلي والتكوين الفلسفي لفهم الفلسفة وتبديد غموضها. 

ومع الأسف الشديد ثم عدد غير قليل من المتعلمين ممّن يشيعون بين الناس كراهية الفلسفة، ويتجاهلون أن معظم العلوم ذات طابع تخصصي ومحكومة بسياق مفاهيمي ومنهجي خاص، لا يُسبَر غوره عادة إلا المتخصصين ومن بذلوا الجهود من إزاحة الغموض والصعوبة، التي تعتريهم أثناء الاطلاع على هذه العلوم الدقيقة.

 فلكل علم وفن معجمه الخاص وقرّاءه الخاصين وعالمه الخاص. ومرة أخرى، لو سألت أحدهم عن حقيقة خصوصية كل علم سيجيبك بالإيجاب لكن تبقى الفلسفة في ضميره غامضة! كما لو أنه متمكّن من قراءة مختلف العلوم بلا تدرج وفهم خاص. 

المهم في الأمر، ما ينطبق على أي حرفة أو فن أو علم ينطبق على الفلسفة بالتأكيد، لكن ثم أمر مريب يتوارى بين هذا النفور الشعبوي من الفلسفة لا يقوى أحد على الاعتراف به، وهو أن الفلسفة تطيح بملاذات الناس الآمنة وأعني بها أوهامهم التي تفترسهم.