حصة الحياة وحصة الرياح

ثقافة 2023/05/15
...

  ياسين طه حافظ

الانشغال بالسطحي يزعج عادة الأعلَين ويأسفون لإضاعة زمن بما لا قيمة له. لكننا من جانب آخر، أكثر اعتدالا، لا نراه عيباً اجتماعياً قدر ما هو بعض من ظاهرة تخلف مستوى. هو في الأقل يفتقد الحكمة يشفع له واقع غير منتظم النضج عشوائي الحركة في محاولاته وتحولاته. ثمة شك في صوابه وعدم اطمئنان إلى مضمون تلك الحركة أو ذلك السلوك. هو عموماً نتاج فوضى ولاءات وفوضى اهتمامات صغيرة وكثيرة.

وما قد يبدو من تسويغ عقلاني أو اصلاحي أو تظاهر بالخدمة الاجتماعية وأخلاقيات تضحية، هذه كلها نسبة الصدق فيها ضئيلة ولا تتعدى العرض الخارجي، ويكشفها واقع عملي. هي لا تخفى حقيقتها على بصير. هنا الصفة لها غطاء من صفة أخرى في الحال أو فيما بعد. نحن عموماً نشهد «حركات عمل وحماسات فردية لصْق الذات على ما يعن من صغير الأمور وكبيرها، وقد تنضوي تحت لافتات جماعية. لكنها بلا فلسفة واضحة والهدف المعلن يموّه أهدافاً مختلفة.

مما تعلمناه وما عرفناه من مجريات الثقافة حتى اليوم، أن كلما اتسع فرع من فروع المعرفة، اتضحت فلسفة. وتواصل الاتساع يستوجب المزيد من الحضور الفلسفي لمنحه معنى ولتأكيد حقيقته.

ولهذا لا يمكن لحركة ثقافية أو لظاهرة فنية أن تعيش على التعابير السائبة أو مفرطة السخاء من النعوت والوعود. الحركة مباركة، والنشاط مبارك مرحَّب به، ولكن امتلاكه جوهراً شرط لتحوله من افتراضات باذخة إلى أفكار وفلسفة أو إلى حقيقة ومنهج عمل. وإلاّ فيضيع في اللفظية ونحن نريد أن ننجز أو نحقق تحوّلاً. 

هنا صار لزاماً اختزال الكثير من الفضاءات العازلة بين الفقرات ومنح الواقعية فرصة حكم، لكي لا تظل وراء الحماسات شتات جهود ورغبات لا يلمّها منهج تفكير ومنهج تفكير يسعى لطلب صواب وسلامة منتَج. معنى هذا إضافة رصانة تبعد الفضفضة فيمتاز العمل بكياسة علمية، تؤملنا بتحول جوهري أو إسهام بتحول جوهري.

أما التحجج بالاصلاحات اليومية الصغيرة سواء في الدولة أو المنظمة أو النشاط الفردي، فهذه علاقتها بالنشاط اليومي لا ببرنامج العمل والتحولات. الانشغال والإعلان الصاخب عن تبليط شارع، بناء مدرسة، إضافة جناح في مبنى عام، رعاية أيتام أو فقراء، فتح قاعة أو صالة إضافية في منتدى أو معهد تدريب، إصدار منشورات أو ملحق لصحيفة يومية...، هذه وأشباهها مفردات عمل يومي لا تستحق الإعلان عنها بصفتها منجزات. هي بعض من عمل الدوائر والمؤسسات وواجباتها هي ليست مشاريع لاستكمال منظومة تطور أو مرتكزات تحول. هي ليست أكثر من مفردات تعاطف وتلبية احتياجات ضمن جداول المهام العامة للدائرة أو المؤسسة أو الوزارة. نحن بصدد مشاريع عمل ضمن منهج ومنهج «يصنع» ثقافة تطورية أو يعمل نقلة من حال إلى حال ومن مستوى إلى مستوى ومن العادي إلى المهم الذي يسند العبور إلى المكسب المستقبلي وإلى تقدم معرفي فيه الحقيقة أوضح من قبل.

وليكون هذا صلباً ومتجاوزاً، يحتاج إلى فلسفة، إلى تجدد معنى وتجدد منحى وفهم.الأسئلة الجديدة تعمل على توسيع إجاباتها. فمثلما نمو المعرفة يطرح أسئلة، الفكر الفلسفي يضيف ويجدد إجابات. في تفاعلات الواقع لا غربة بين المعرفة والفلسفة، بين العلم والفلسفة وبينهما وبين الفن. دائماً ثمة تعاون خفيّ واحتياج متبادل لديمومة الأطراف كلها. وهنا وجب التنبيه إلى أن المدى الفلسفي، لا كما علمتنا المدارس، واحد الفعل والاتجاه. هو يتحرك لجميع الاتجاهات ويعمل في الثقافة والحياة ويحدِّث مضامينها، إذاً عدم الرضا عن السذاجة أو الخفة في الفعل أو في الإنتاج للمؤسسة أو للفرد، كما يحصل في الأدب السطحي، هو مثال هزيل للعبث اليومي ولتوظيف هذا الأدب ومتعلقاته من العلاقات الشخصية أو النفعية لادراك المعرفة، عدم الرضا عن هكذا حراك، ليس لكونه مخالفاً لمزاج ولكن لأنه يفتقد الأفق والدلالة الأبعد، عملاً ومعنى. وهذان لا تنقطع صلاتهما بالفكر ما داما نتاجي المعرفة قرينة الفلسفة الدائمة. العمل الإبداعي بحكم ذلك يعني امتلاكه الجدية والكِبر. ويتسع هذا الحكم ليشمل كل عمل وممارسة. العمل يكسب حضوره الفاعل بالمعرفة التي وراءه. وهنا حين نقول عمل، فأي عمل: أدباً، فناً، علما،ً صرفا،ً أو ميكانيكا، أو لعبة رياضية، الفلسفة في جميعها تظل مانحة «القيمة الأخرى» للمهارة وللفعل. أما أن يتسع العلم في موضوع وتزداد المعرفة بحقله ونحن ننشغل بالهامش اللاقيمة له، وبالغُثاء الذي تفرزه حيوية الواقع، فهذا يعني أننا حكمنا على المعرفة وعلى الفن بافتقاد القيمة والمعنى، ووقفنا وقفة البلهاء في عالم يريد أسباباً ونتائج حين يريد هدفاً يستوجب الحماسة والفعل. 

لغتها وموضوعها وبلا فلسفة نخسر كل شيء. والإنسان بعد كل هذا، يكبر أو يصغر بمستوى ما يعمل ومستوى ما يعمل بقدر ما يفكر ويرى. وهي هذه حصة الحياة كما هي حصتنا أفراداً ممتازين ساعين إلى الأفضل والأصوب. فمع رغبتنا في معرفة ما حولنا من مفردات لنرقى، نسعى لمعرفة أنفسنا ومع المعرفة النظرية نطلب الحكمة العملية. التقصير في أيّ منها يلغي الجدوى ويبقي اللغو، يُبقي حصة الرياح.