طالب عبد العزيز يبحث عن خلاصه شعريَّاً

ثقافة 2023/05/16
...

 البصرة: صفاء ذياب

(هل ارتضى منتجو الثقافة، شعراء وكاتبين وكل خائض في المخاضة المرهقة هذه أن يكون كتاباً أنيقاً مرصوفاً في مكتبة قليلة الغبار؟ وهل هذا مآل مقنعٌ للذين أفنوا أعمارهم في الصنعة المربكة هذه؟ أقول هذا وأنا أقلبُ وأتصفحُ المئاتِ من الخطاطات والقصاصات المقتطعة التي ما زلت احتفظ بها في درج مكتبتي السرية، منذ عقود، مع رزم من أوراق ورسائلَ كثيرة، بعضها شخصيٌّ جداً، وبينها نماذج لقصائد لم تكتمل، وهوامش على كتب، وتصويبات وأشياء أخر هي قوام تجربتي في الشعر والكتابة).بهذا التساؤل، يقدم الشاعر البصري الخصيبي طالب عبد العزيز رؤيته للشعر، في الجلسة الاحتفائية التي اقامها اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة يوم السبت الماضي، وقدمها الفنان والكاتب هاشم تايه.

 هذه الأسئلة التي جعلت من الكثير من الشعراء الحقيقيين يعزفون عن نشر نتاجهم الشعري، بسبب التحوّلات التي طرأت على عالم الكتاب من جهة، وعلى مجتمع القراءة من جهة أخرى، فعبد العزيز الذي أصدر أكثر من عشر كتب في الشعر والرؤى والمكان والرحلة، يعترف بأن ما يجعلنا نعيش هو كتاباتنا الخاصة، بعيداً عن عالم النشر أو الصحافة أو الانهمام بمستقبل الشعر، بل إن ما يمكن أن ننشره الآن، ليس سوى خيط أمل ضعيف يربطنا بهذا الواقع أو حياتنا الآيلة للسهو.

ويضيف طالب في وقته التي جاءت تحت عنوان (حديث في الشعر.. بوح مختلف): إذا شئتُ الحديث عن الشعر فأعتقد بأنَّ الشعر تعرض لكلِّ الهزائم تلك، والشعراءُ أكثر مخلوقات الله هِجراناً، وإلَّا فأين نحنُ ممَّن أحرقوا قلوبهم شعراً، وأفنوا أعمارهم قصائد وهمهمات، وحين ماتوا، تعجّلتهم يدُ النسيان، ولم يحفل بقبورهم غير عشبةٍ فقيرة، أو شجرةُ طرفاء مالحة، ظلّت تتوحّش وتذبل لتموت هي الأخرى في رملة لا تؤتى إلَّا من فتحة صغيرة بسياج المقبرة.

مؤكّداً أنَّ من السخف أنَّ يظلَّ المثقفُ أسير قيده الاجتماعي- الديني، على حساب وجوده كدالة في صناعة وترسيخ قيم الجمال. 

في مدينتنا أكثر من موسيقيٍّ وشاعر وفنان ورسام وممن يدَّعون الاشتغال في حقل الثقافة، لكنْ أين هم؟ 

هم صامتون، منزوون، ضائعون، خائفون.

الموسيقي يحمل آلته في الخفاء، والأستاذ الجامعي متطامن مع ما يجري هناك، ولا أجد تعريفاً له، والمثقف يحضر مجلس زعيم الحزب ورجل الدين والتاجر الفاسد والقاتل أيضاً، وكلّهم غرماء، ولا يربأ بنفسه عن كيل المديح لهذا وذاك، هو جبانٌ نوعيٌّ، أمَّا إذا بالغ في طمر شجاعته فنراه قد ذهب إلى طلاسمه وأحاجيه وإخوانياته، لائذاً بلغة كريهة، عطنة تزكم الأنوف، وتنبعث من معجمها رائحة مقبرة، فهو لا يقتربُ من المتن، ويتفادى السقوطَ في الهامش، وهذا ما يفعله عدد كبير من المثقفين للأسف.

هناك أكثر من شيء يُطمس في حقيقة وجودنا كنخب مثقفة، نحن غيرُ أمناءٍ على ما أستودعنا.

 

أنداد الشاعر

وفي حديثه عن الشعر وأنداده، يتساءل عبد العزيز: متى كان الشاعرُ مستسلماً، ومتسلماً هاضماً لما يُملى عليه؟

وهو مخلوقُ الخرقِ والرفضِ والنفور، وهو الركبُ المنتَهبُ، من قُبُلٍ.. أنفةً وألقاً وعنفواناً، وهو الصارخ في بريّة الآخرين: “خذاني فجراني” هكذا، أجدني ابناً عاقاً لكلِّ الأسلاب التي ورثتُها، لا أحفل بما يراه الآخرون فردوساً، ولم أسعَ خلف مسرّة نافقة، وسأظلُّ متنعماً بما يتصوّره البعضُ جحيماً، أقرأ فرناندو بيسوا البرتغالي، الشاعرَ ذا الاضداد الثلاثة، الذي تخفّى، نصف قرن في أنداده، وأصرَّ على أن يكون معنى في “اللاطمانينة” أميناً على قلقه وضجره ونفوره. 

لكي تكون شاعراً عليك أنْ تصنع الصدى قبل الصوت، والرفضَ قبل الاعتراف، إحساس هو من الغرابة إذ إنّه ليس من التحسّر، أو من الندم، أو من الحنين بشيء، إحساس مصنوع من زمن متقن. 

ذلك لأنَّ لحظة الشعر هي وعي اجتماع الأضداد كما يقول باشلار.

مبيناً أن الشعرَ ليس غرغرةً بالكلمات، هو حضورٌ كاذبٌ، إنْ لم يُقرنْ بغيابٍ على كراهة، وقول فاجعٌ في مجلسٍ للحقِّ، غادرَه غيرُ القادرينَ عليه، قطرةُ الحبر التي تلوّثُ ورقةً الرّياء، القدمُ الراسخةُ في طينِ الصفحِ والمُواساة، وهو الأبديَة، تمدُّ يدَها لمن لم يبتدئ بعد، مصحفٌ مقدّسٌ، وإن هُجرَ، ولم تمسَّهُ يدٌ آثمة. 

القصيدةُ تشقُّ قلبَ الشاعرِ عن آخره، فتخلّصهُ من البغضاءِ واللؤم والعِرقِ الفاسد، ومن البِركَة الحمراء التي ستتسعُ حول رأسه ذات يوم، يلتقطُ الشاعرُ كلماتِه.

فهو صمتُ الطباشير على حافَّةِ اللوحِ الأسود، والخصامُ غيرُ المُعلنِ بينَ الالوان في حقيبةٍ مدرسيّة. 

وهو الذي يتّحدُ بكلِّ ما هو مُنجَّد وناعم، وهو طفلُ الكلمات الذي يبحثُ في أرفّفِ الضوء عن اسمٍ له.

 

في سؤال الشعر

الأسئلة التي طرحها عبد العزيز كثيرة، لكن من أكثر التماعاً تساؤله عن فحوى الشعر نفسه، فيقول: ما زلتُ، وبعد عقود من الاشتغال بالثقافة قراءةً وكتابةً ومتابعةً، أشعر بالخشية، وبرهبة حقيقية أمام الورقة، هناك غول كبير يترصّدني، ويسخر مني أحياناً، هو يقول لي: “ماذا ستكتب؟ وما الذي ستضيفه إلى مئات الأوراق، التي تُملأُ بالشعر يومياً، في هذا الوطن العربي الممتد من البحر الى البحر؟ وهذا سؤال سيظل يؤرقني إلى أمد بعيد، من دون أن أملك الإجابة عنه.

ولو تأملنا عديد ما يكتب وينشر من قصائدَ وكتبٍ في لغتنا العربية لوقفنا على رقم كبير جداً، لكنْ، لو تصفحنا الكتبَ تلك، وسألنا أنفسنا عن أهميتها، أترانا تركنا قضيةً تؤثر؟

أنكون فخورين ما بين أيدينا منه؟ 

وهل يشكّل بعضُها دالةً على مقولة مثل (الشعرُ ديوان العرب) التي لم أتوقف عندها طويلاً؟ في مكتباتنا الكثير جداً مما لا يستحق التصفح والقراءة، وأعتقد بأننا سنصاب بخيبة كبيرة، إذا أردنا أن نحتفظ بما يجبُ أن نحتفظ به منها، نحن نسرف في كتابة ما لا يُقرأ، ونلّوثُ الطبيعة والذائقة الآدميَّة. 

كان “جوته” يقول: “إذا أردت أن تُسرّك قيمتُك، فلا بدَّ لك أن تضفي على العالم قيمةً”.

مؤكداً أنه في محاولاته الشعرية الأخيرة أراد أن يختلف مع تصوراته التقليدية لقصيدة النثر، فـ “أصدرتُ كتابي (من الفندق إلى الحانة) على أنَّه كتاب رحلات، لكنهُ لم يكن كذلك، فما أنا برحّالة فيه، لكنّني، أردتُ فضاءً جديداً للقصيدة، مستثمراً ما في مصطلح الشعرية من حركة وسعة، لعلمي بأنَّ الشعر الحديث لا يستكين، ولا يركن الى شكل بذاته، وله القدرة الكبيرة على الاخذ من القصة والرواية وفنون الكتابة 

الاخرى.

يقول حاتم الصكر بأنَّه بات لا يطيق قراءة قصيدة تقليدية، وهناك عائقٌ بَصَري (الشكل) يتحكم بالقراءة، لأنَّه أمسى عائقاً قرائياً، كذلك الأمر مع قصيدة التفعيلة، التي أصبح الوزن والشكل فيها عائقين قرائيين أيضاً، وعن قراءته للسياب وجيل الرواد يقول بأنَّه يزمّن القراءة، أي يحيلها إلى زمن شعرائها، إذا أراد قراءتهم. 

لذا رأيتُ أنَّ الشكل الذي عُرفت به قصيدة النثر يندرج ضمن الإشكالية تلك، وأنَّ العين تملُّ الشكل الذي آلت إليه. 

ضمن هذه التصورات أردتُ انْ أجد لقصيدتي شكلاً آخرَ، لعلمي بانَّ تطور القصيدة لا يعني وقوفَها على هيئة معينة. 

فكان (كتاب أبي الخصيب) على الشكل الذي أردته، مختلفاً، آخذاً من السرد شكله، ومن الشعر آلته، أردت أن أوآخي بين الشعر والسرد في كتاب واحد. 

كذلك فعلتُ في كتابي (سريرُها وما يليه) وكلّها محاولات تحتمل الصواب والخطأ، لكنها بحثٌ في الخروج من تقليدية الشكل الى فضاء مختلف.

فالقصيدة الحديثة عندي لا تستدعي شكلاً معيناً في كتابتها، هو يتحقق، كذلك يكون موضوعُها، دونما وعي مطلق، هو يتخذ أكثر من مسار وخاتمة، وبوعي يتشكل دونما قصد، لكنّه يقترح أكثر من نهاية، فقد تتشظى الكتابة في عنوان قادم، لقصيدة مختلفة تماماً، شكلا وموضوعاً. 

وأعتقد بأنَّ كونديرا هو الذي قال: “ليست رسالة الشعر هي أن يبهرنا بفكرة مدهشة، لكن، أن يجعل لحظة الوجود لا تنسى، وتستحق حنيناً لا يطاق”.. وهو الذي يقول: “الكتابة تتحقق عندما تتجاوز الحدود، التي تفرضها اللغة عليها، اللغة أداة فاشلة بالمناسبة”. 

فالشاعر ابن القلق والجنون والأخيلة، لذا فهو متحرك في مشتغله الشعري والفكري. 

الأعمال الكبيرة تجيءُ من خَرق ما، من تحطيم لنسق، لأنَّ الثبات يعني الموت، كما يقول بعضهم. 

“القيمة الشعرية، بحسب باشلار تدعم السموَّ، الذي ليس باستطاعته الظهور إلَّا كرشفاتِ خيال”. 

الجمل والكلمات محفوظة في أوعية زجاجية، بعيدة عن مستعملي الكلام، ومتوارية، تنتظر شاعراً ما، يمنحها حقيقة وجودها في المعجم.. شخصياً أجد في كتب المستشرقين والجغرافيين والرحالة ما لا أجده في كتب الشعر ذاتها، في المعاجم أيضاً ما يدعونا لزعزعة ثوابت الكتابة.

تقول جورج صاند: “لا يجب التفكير بشيء أثناء الكتابة”. 

الجلسة التي لم يشهد اتحاد الأدباء منذ سنوات مثل حضورها النوعي والنخبوي، ختمها عبد العزيز بقراءات شعرية من نصوصه الأخيرة، لكنها لم تكن لتنتهي من دون تعقيبات كثيرة، حول فحوى الشعر الآن، وأهمية طالب عبد العزيز في الخريطة البصريَّة والعراقيَّة.