جيل التغيير السردي.. بلا تغيير

ثقافة 2023/05/16
...

  وارد بدر السالم

إن أكبر عدو للمعرفة ليس الجهل، بل توهم المعرفة  “ستيفن هوكينغ”


اقتربنا من نهاية العقد الثاني الذي أعقب 2003 وهو عام التحول السياسي، الذي تغيرت بموجبه البنى الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وقد يكون العقدان كافيين لتكريس ملامح ثقافية جديدة وتوطيدها في المشهد الثقافي العام. بظهور أجيال أدبية جديدة، لا سيما في السرد الروائي، مما يعني في الصورة الظاهرة انعتاق الأفكار من رقابتها الطويلة.

وظهور كتابات وأسماء شبابية من شأنها أن تعزز قيمة الحرية المتاحة، التي أوجدها عام التغيير السياسي وما تلاه من حقبتين جيليتين بالمصطلح النقدي المتعارف عليه.

ليس مطلوباً أن تكون هناك بيانات أدبية شعارية منفعلة.

ولا مدارس أدبية تستخلص العِبرة السياسية في مجتمع تقاذفه اليمين واليسار السياسي أشواطاً طويلة. 

ولما كان السرد الروائي هو الذي بصم على المشهد الأدبي بشكل واضح، فإنه مطلوب للتبرير الفني أيضاً، فلا يكفي صدور (آلاف الروايات) ما لم تكن ثمة مؤشرات فنية إبداعية تواكب هذا الصدور المتتالي؛ فالتيارات الأدبية ليست بالضرورة أن تكون جماعيَّة في بيانات وبرامج ورقيَّة، لكن جماعيَّة التيارات هي أن تكون قد بدأت مشروعها الثقافي التحرري، والمنعتق من سنوات ظلاميَّة كثيرة مرت بها أجيال أدبيَّة عراقيَّة، سواء أكان فرديا بشكله وأسلوبه أو ذا مرجعيَّة ابداعيَّة موضوعيَّة.

في العادة فإنَّ كل تغيير سياسي، أو خروج من الحرب، تتغير بموجبه وقائع سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، ليس شرطاً أن تكون مرتبطة بأيديولوجيات، لكن الشرط الضمني أن تقدم مشروعها الفني الجديد في رؤى إبداعية جديدة وأسلوبية متطورة بأشكال تتفق مع المتغيرات، بل وتتجاوزها الى ما هو إبداعي. 

وهذه سمة مستخلصة من أوروبا الإبداعية التي عانت من الحروب والديكتاتوريات ومحاكم التفتيش سيئة الصيت. لهذا من الضروري أن نعود الى الوراء قليلاً، لنرى المتغيرات الأسلوبيَّة التي أوجدتها الحركات والتيارات الأدبيَّة التي تمخّضت عن الحروب والثورات الجماهيريَّة، والخصائص الأسلوبيَّة المثابرة في التجديد والتحديث، بما تشير الى زمنيتها في مسالكها الابداعيَّة، بدءاً من الحروب الصليبيّة، وما تركه الأدب اليوناني الكلاسيكي الملحمي القديم في الألياذة والأوديسة وسواها، حتى نقف عند الأدب الكلاسيكي القديم، فهو البذرة الأساسية للفنون والتوجهات الكتابية الضاربة في قدمها، والتي عاصرتها أجيال من الكتّاب ما زلنا نقرأ لهم حتى اليوم، حتى التيارات التي أعقبت الكلاسيكية فإنها، من القرن الرابع عشر فصاعداً، عُدّت أساسيات في الكتابة الملحميَّة والروائيَّة، مع وجودها العاطفي الذي تكرّس عبر الوقت، وصولاً الى عصر النهضة الأدبي والفني الذي امتد الى قرنين زمنيين برز فيهما فن النحت على وجه الخصوص والملاحم المسرحية والسردية (دي كاميرون- لوكاتشيو) ولاحقا شكسبير وسرفانتس. 

ولما نقف عند الكلاسيكيين المؤسسين (كورني وراسين وموليير ولافونتين) سنجد أن أفكارهم الأدبية تأسست على معيار الجمال الأدبي، باعتبار أن الأدب (صفوة) وأن (العقل هو المعيار) وعندما وضع الألماني شليجل الرومانسية كمذهب أدبي، كان يدرك أن الثورة الفرنسية سببٌ للتمرّد على الكنيسة وسطوتها المباشرة، ومن ثم فإن مفردات مثل (الحرية - التحرر- التمرد- الذات الفردية المقدسة- الطبيعة – الفطرة- المحلية) هي الموحية لانطلاقة هذا المذهب في أوروبا بوجهٍ عام (جان جاك روسو- شاتوبريان)، وإذا مررنا الى العصر الصناعي الأوروبي في القرن الثامن عشر، سنجد تيارات ومدارس كثيرة، ففيه ظهرت التقليدية الحديثة والرومانسية، استجابة لإعادة الذات الأدبية اليونانية والرومانية (فولتير وفالديزونيناس وفولفغانج وأيزاكس) بانبعاث الخيال الأدبي كركيزة أدبية، خرج عن الواقع الصرف، وبرأينا فإن ما بعد منتصف القرن الثامن عشر، باعتماد الخيال السردي، يبقى هو الجذر الإبداعي السائد حتى اليوم، باعتبار أن الخيال المجرد عن وقائع الواقع هو الأساس في تكييف الأعمال الأدبية الى ما يجب أن تكون عليه من نشاط إبداعي، غير تقليدي، بالرغم من أن واقعية وانطباعية القرن التاسع عشر، توسعت في أوروبا وظهرت أعمال أدبية كبيرة وأسماء كلاسيكية، إلا أنها بقيت مؤسّسَة لتيارها السردي (ستاندال وأميل زولا لاحقا مع نهاية القرن التاسع عشر)، بما يمكن أن نسميه حداثة الكتابة التي خرجت من معطف القرن الرابع عشر، في البحث عن الخيال والجمال. مثلما تأسست السريالية الأدبية التي شملت الفنون أيضاً، على يد بريتون، حينما تم تجريد الجمال الى حد كبير. وصولاً الى القرن العشرين، إذ تشكلت ملامح الأدب الطبيعي بعد الحربين العالميتين، ثم الواقعي السحري الذي قاده ماركيز وأدباء امريكا اللاتينية بالخروج عن الواقع التقليدي الى الخيال الفائق.

نجد أن التيارات والبيانات الأدبية والفنية كثيرة بعد القرن العشرين في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأوروبا كلها، التي كانت ردة فعل على الفردية السياسية والحروب العالمية والأهلية، ولسنا بمعرض إيرادها، بالقدر الذي وددنا الإشارة الى أن مثل هذه الحركات الأدبية، هي ردة فعل مناسبة ومطلوبة للتغيرات البنيوية في المجتمعات التي عانت من ويلات الأنظمة الفاسدة والتجمعات الدينية الأكثر فساداً، والحروب العبثية التي أظهرت نسباً مهولة في الفقر والبرجوازية الصغيرة التي أثْرت على حساب المجتمعات، لذلك كان الأدب بتطوراته فاضحاً لتلك المُثُل الجديدة التي لا تلائم أوروبا الصناعية الآخذة في التطور الصناعي والعلمي والاقتصادي.

سنجد في مقابل هذه التيارات المعروفة، إنتاجاً سردياً وشعرياً كبيراً مؤسَّساً بحذاقة وقافزاً على الموروث القديم بابتكارات إبداعية. ما يزال الى اليوم مَعْلَماً كبيراً لا يمكن تجاوز قراءته، ومن ثم فإن معاينة الرواية العراقية من هذا الباب، أو من غيره، سيُظهر لنا نتائج مغايرة كلياً، فلا الفرد ولا الجماعة قادرون على أن يتجاوزوا (السلف) الروائي، ولا هم قادرون على أن يؤسسوا لسرديات ما بعد التغيير الذي أوجد مناخَ كتابة قد لا يتكرر في عمر هذه الدولة المأخوذة باليمين واليسار. وأن (آلاف الروايات) المنتجة عبر حقبتين زمنيتين متتالين، لا تعني شيئاً في الذاكرة الإبداعية، ما لم تكن هناك جذوة سردية بارعة وثقافة ذكية تؤسس لمستقبل الكتابة، بعد أن تؤسس لحاضرها وتتجاوزه إلى حد كبير.