سردية مغايرة لتجارب روحيَّة {أديــان ومــذاهب سرّيّــة}

ثقافة 2023/05/16
...

   نسيم الكاتب*

عن دار لندن للطباعة والنشر والتوزيع في العاصمة البريطانية، صدر حديثاً كتاب {أديان ومذاهب سرّية} في طبعته الأولى التي دشن فيها الكاتب جمال حيدر رؤيته. ويأتي هذا الجهد المتميّز من الكاتب، بعد عدد من مؤلفات له، كانت قد صدرت  تباعا، والتي تنوعت ما بين النقد والدراسة الشعرية والترجمة والأدب والاجتماع والرواية وأدب الرحلات.

 ونذكر هنا هامشاً عابراً منها، كـ "الصيف الأخير ـ دراسة شعرية، "بغداد ـ ملامح مدينة في ذاكرة الستينات"، "الغجر ـ ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب"، وكتاب "المعنى والظل ـ في الأدب والفنون والمعرفة"،  و"أجنحة في سماء بعيدة" ـ  رواية، و"شموع على أرصفة الكرادة" ـ  رواية، وغيرها من المؤلفات التي أغنت المكتبة العربية مضموناً وعناوين.

كتابه الجديد "أديان ومذاهب سرّية"، الذي بين أيدينا، استعرض فيه كل ما خفيَ من التفاصيل المجهولة عند غالبية القراء العرب على وجه الخصوص، مُعززا ـ  قدر الإمكان والمستطاع ـ سرديته المنسابة بهوادة مُريحة للقارئ، بالمصادر، إضافة إلى مصدره الواقعي الذي كان يقتنصه بحِرَفِيَّة، كما بتفرّد، من خلال تقصّيه الشخصي الذي يُعتبر المصدر الأصدق والأوثق، للتعرف المباشر على كل دين ومذهب يطرحه في كتابه القيّم، من أول كونه (ذاك الدين أو هذا المذهب) سريّاً، حتى أمام ذوي الاختصاص، كما لسواهم من كل باحث عن المعرفة، وصدقيَّة مصادرها، كما واقعيتها التي نَدُرَت، خاصة في مثل هكذا مواضيع وإتجاهات من هنا أو هناك، ربما تحكمها ـ في إستعراضات لمؤلفين سبقوه ـ أمزجة مؤدلجة، أو حتى غير حيادية، وعوامل اجتماعية، معلومٌ وربما بديهي، أنها تقيّد حرية الكاتب في طرحه، من حيث يقصد ولا يقصد، وإن كان ذلك بأدنى النِّسب عند كل متقصٍّ، يبتغي العدالة والحيادية في الطرح، حين يروم الخوض في بحور اللاهوت المجهولة في غالبها عند الغالبية العظمى، وكل ما له صلة في العلاقة بين الإنسان والسماء. 

 وعلى هذا الأساس البديهي، يطرح الكتاب السؤال الأزلي الذي تعددت أجوبته ـ وستتواصل متوالية ـ ما دام هنالك إنسان يفكّر بوعيٍ، على الأقل من باب الاستناد إلى القول المشهور عن أحد العارفين "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"، والسؤال المختصر وربما المحوري هو: "ما هو الدين..‬ وما مدى أهميته في حياة البشر"؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أما الجواب فيحاول المؤلف أن يصل إليه من خلال استعراضه الشَّيِّق لعدد لا يُستهان به، من الأديان والمذاهب السرية، والسرّيّة على وجه الخصوص.. واصلاً ـ أو يكاد إلى إدراك  كما يؤكد في مقدمة الكتاب ـ أن الأديان برمتها مستنسخة عن بعضها البعض،  وتوالدت استناداً إلى كل التي سبقتها، انطلاقاً من الحضارات الإنسانية الأولى التي وضعت خطواتها الأولى في مسار وجود الرب، والإيمان به، وتنفيذ تعاليمه، لكسب رضاه.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

من هنا يمكن القول بأن الأجوبة الروحية ـ والذاتية خاصة ـ لدى الإنسان كانت قد تعددتْ بمرور الأجيال وتوالي الأزمان، وذلك طبعا بموازاة التشكيل التصاعدي للوعي الفطري للبشرية عموما، بهدف إيجاد الحلول للكثير من الأسرار الغامضة، وتفسير القوى الغيبية التي تدير حياتها، باعتبارها قوىً تفوق إدراك العابد تجاه المعبود، أيا كانت صفاته ومكانه ومكانته.

فمن البهائية والزرادشتية مروراً بالأيزيدية والكابالا وجمعية الأصدقاء الدينية (كويكرز)، وانتهاءً بالإسماعيلية والديانة السينتولوجية، على سبيل المثال لا الحصر، يتنقل الكاتب في سرده وكأنه رحالة معاصر، عاش تفاصيل كل دين ومذهب، بل وكأنه عَبَرَ الأزمان دونما قيود، ليعيش كل حقبة بحد ذاتها دون سواها، وذلك من خلال احتكاكه ببعض المنتمين لهذا الدين والمذهب أو ذاك، حيث لم يدّخر جهداً في انتهاجه مبدأ التقصّي الواقعي الشخصي، مبتعداً عن الأسلوب التقليدي المعهود في نقل الحكاية من هذا البحث، أو تلك الرسالة أو حتى الدراسة، بل اعتمد الأسلوب السردي المباشر من معظم من التقى بهم شخصياً، ممن لهم العلاقة المباشرة أو حتى غير المباشرة مع كل دين أو مذهب مرّ به، خلال رحلته الزمكانية، وكأنه يطرح أدب رحلات روحي خاص به، وبأسلوب مختلف، وغاية مُغايرة، لا تحيد في جل أهدافها عن طرح الأجوبة لمجموعة من الأسـرار الغامضة التي عجـزت الرهبة التعبدية عن كشـفها وطرحها خشية من الاتهام  ربما، برغم من أن الشك هو الخطوة الأهـم في طريق الإيمان ـ حسب تأكيد "حيدر" في خلاصة كتابه.. فبعض هذه الأديان، يضيف الكاتب، بشَّرت بها ودعت لها شخصيات روحية، بعدما تلقت وحياً من الخالق، بينما في أديان أخرى كان الوعي الإنساني والتجارب الذاتية والصحوة الروحية هي الدافع للتبشير بها.. عازياً بالمقابل أهم أسباب إنحسار تلك الأديان أو المذاهب في فناء روحي ضيق، مبتعدة عن الواجهة، إلى كونها إعتمدت على مساحة تعبدية محدودة قياسـاً إلى الأديان الرئيسة، أو الكبيرة.

ويشير المؤلف في مقدمة كتابه إلى أنه يتفق تماما مع ما ردده المهاتما غاندي مراراً على مسامع أنصاره بأن دراسة واعية وبعاطفة لأديان العالم واجب مقدس. 

ولعل هذه العبارة مثلت له وبلورت الدافع لمعرفة أديان ومذاهب سرية أو غير معروفة تنحصر طقوسها وعباداتها ووصاياها بين الأتباع حصراً، في محاولة لمعرفة الجانب المخبوء من عالمنا الروحي ودراسته.

يختم "حيدر" قوله بأن أغلب الدراسات التي شملت تلك الديانات أو المذاهب كانت متحيزة ضدها مسبقاً، لهذا حالت دون معرفة حقيقة جوهرها.. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي يدور ضمن رَحى السعي الحثيث والمثابر دونما كلل أو ملل للكشف عن المخفي، الذي ارتبط في الذهنية الجمعية، بكل ما له علاقة بسلبيات نتائج كل اعتقاد مجهول، لدى السواد الأعظم، وبالتالي وصمه بالشِرك والضلالة والباطل.

 في النهاية يصل المؤلف إلى خلاصة روحانية متفرّدة، رغم أنها معهودة وبديهية، تتلخص في مفهومه العام نحو كل دين، ورؤيته الخاصة عنه، والتي يمكن أن تتحول إلى العموم عند كل البشر، مفادها بأنه مهما اختلف أو اتفق مع تلك الأديان والمذاهب، غير أن الكتاب ـ والكلام لا يزال لحيدر ـ يبقى استجابة للبحث عن حقيقتها، فالمعرفة هي مبتدأ التسامح ومفتتح احترام الخصوصية والشروع صوب التعددية، فالمرء عادة عدو ما يجهل.