كارل ماركس.. الحاضر معنا أبداً

آراء 2023/05/16
...

  سليم سوزة


«رحم الله مَن قرأ سورة الفاتحة»، هذه أولى عباراتي عندما دخلت مسجداً قبل أيام، أقام فيه صديقي مأتماً على روح أمه المرحومة التي نجت من عالمنا هذا بأعجوبة الموت. 

وما إن أنهيت والحاضرون قراءة «الفاتحة» والرد بالمثل على من كان يحيّيني بالعبارة العراقية العذبة «اللهبالخير»، حتى جاءني صبي ناحل يحمل معه قنينة ماء وقدحاً مصنوعاً من الورق المقوّى ووضعها على الطاولة الصغيرة المتسمّرة أمامي. 

نظرت إلى القدح وإذا بالقهوة تملأ نصفه، قهوة عربية خالصة يفوح منها عطر المآتم. 

تناولتها وأنا أسأل صديقاً آخر جلس بقربي، أين الدلّة وأين فناجينها الفخار التي اعتدنا على رؤيتها في المآتم؟ 

للقهوة ثقافتها الخاصة. 

رجلٌ بلباسٍ وعقال عربي يتوسّطه حزام جلدي، يطقطق بفناجينه البيضاء التي يحملها بيمناه، في حين تحمل يسراه دلة قهوته. 

يصب قهوته بيساره إلى فنجانٍ يدفعه لك بيمينه. 

تشربها وتهز فنجانك الفارغ نحوه في إشارة إلى أنك اكتفيت. 

أمّا لو أعطيته فنجانك الفارغ من دون أن تهزه، فسيفهم أنك تريد المزيد. 

لن يتوقف حتى تهز الفنجان أخيراً. 

أجابني صديقي بابتسامة شرّير نال من ضحيته: يبدو أنك لم تحضر مأتماً من سنينٍ يا صديقي! لقد غيّر فايروس كورونا الكثير من عادات المآتم. 

لم تعد هناك فناجين قهوة تقبّلها شفاه الحاضرين بأجمعها خشية انتقال المرض، بل صار ثمة أقداح مطاطية رخيصة ذات الاستعمال الواحد فحسب، يُلقى بها إلى المزابل حال الانتهاء منها. 

لم يعد هناك «الثريد» ولا الرز الذي تعلو على هامته كتل اللحم المطبوخة على نارٍ رحيمة، ولا حتى أقداح اللبن الزجاجية، التي تصاحب وجبات المآتم تلك، بل «سندويچات» سريعة مع علب المشروبات الغازية (بيبسي) تُوَزَّع بين الحاضرين كما لو كانوا في حفلة زفاف. 

ها هو ذا كارل ماركس يولد في المآتم مجدداً. 

لقد كتب ماركس قبل قرن ونصف تقريباً من أن العادات والثقافات والسلوكيات البشرية ابنة ظروفها الطبيعية والمادية، تتغير باستمرار بتغيّر تلك الظروف. 

ساهمت الظروف المادية تلك في صناعة الثقافة والسياسة والمجتمع، وفي تغيّرها تغيّر في عادات البشر واعتقاداتهم. 

زرتُ قبل أعوام بغداد التي غادرتها من سنين طويلة، ووجدتُ أن نصف أصدقائي وأقربائي يذهبون إلى زيارة الإمام الحسين في كربلاء يوم السبت وليس يوم الخميس، المعروف باستحباب الزيارة فيه حسب الأثر الديني. 

وعندما سألتهم لِمَ تحوّل يوم الزيارة من الخميس إلى السبت، قالوا أن يوم الخميس يوم مزدحم جداً بالزيارة ويصعب عليهم الدخول إلى حضرة مقام الحسين وسط زحمة الزوّار وعددهم المهيب، ناهيك عن صعوبة إيجاد وسيلة نقل إلى كربلاء في هذا اليوم. 

السبت أسهل عليهم في تأدية مراسيم الزيارة نوعاً ما. 

هكذا نسخ هذا اليوم (السبت) وبفعل الظروف الطبيعية «سنّة» زيارة الخميس الدينية التي عمرها ألف عامٍ أو يزيد. 

لقد قرأ علينا ماركس نصوصنا قبل أن نكتبها واكتشف مبكراً أننا لسنا سوى كائنات «طبيعية» تخترع ثقافتها، وفقاً لحاجاتها المادية اليومية،وما «المآتم» أو «الزيارات الدينية» إلّا تأكيد على أن «الثقافة» نتاج «الطبيعة» وليس العكس.

إنه كارل ماركس الحاضر معنا أبداً في مآتمناوزياراتنا الدينية.