الرموز المسيحيَّة في الشعر

ثقافة 2023/05/17
...

د. كريم شغيدل

 يكرِّس الشاعر السرياني شاكر مجيد سيفو مختلف العلامات لتأكيد هويته المسيحيَّة أو الكلدوآشوريَّة، سواء في قصائده المكتوبة باللغة العربيَّة أم المكتوبة باللغة السريانيَّة، وتكاد لا تخلو قصيدة من مجموعته (على رأسي قنديل أمشي) من علامة مكانيَّة أو دينيَّة أو رمزيَّة لهويته كقوله في النصِّ الذي سُمّيت المجموعة بعنوانه:

يااااااااااااا عيسى السنبلة التي نبتت في كفي كلما لهجت بحروف/ اسمك القدوس. يا عيسى السنبلة التي كلما عصرت حروفها انطش حليبها/ على العالمين، إلى متى ستظل تسهر على روحي وتسرّح في النهار/ تباريحي؟ يا بوذا الرؤوف، يا كونفشيوس الحروف يا مولوي الجبل، يا/ أنليل البطل، يا أنكيدو المخبول يا كلكامش الهارب من حديقة أورورو، يا/ يسوع الرغيف الأول، يا أنجيل آدم التراب الأول، يا مجدليتي البيضاء التي/ مجدلت أخطائي السوداء، يا حزن سمعان بطرس في جنون الديك وسعادتهِ(ص51)

 إذ يبدأ هذا المقطع بالنداء في مطلع النص الذي يبدأ بعبارة (العالم كلّه ظلام) ثم ينتقل إلى النداء والصراخ، لذلك جاء النداء مفخماً لفظياً وبصرياً بتكرار حرف الألف، وقد وظف تكرار حرف الألف لتجسيد الصورة الصوتيَّة للصراخ بأعلى صوت، ثم يتوجّه النداء إلى نبي الله عيسى (ع) وبعد تكراره ينتقل النداء إلى رموز دينيَّة وتاريخيَّة أخرى ثم يعود (يا يسوع) فينتقل إلى الإنجيل ثم إلى مريم المجدليَّة ثم إلى سمعان بطرس (بطرس) أحد التلاميذ الاثني عشر، وكلها رموز مسيحيَّة توسطتها رموز ثقافيَّة أخرى (بوذا، كونفشيوس، مولوي، إنليل، أنكيدو، كلكامش) ثم يعود النص بخطاب المناداة نحو (علي، وروح الفرات، وقلق دجلة، وبغداد التي رسمت صورتها بصورة الندبة- يا بغداااااااااه) ويمرّ ذكر كنيسة النجاة التي تعرّضت لعمليَّة إرهابيَّة بشعة، ثم ينتقل النداء إلى(يوحنا، ويحيى بن زكريا، والصابئة المندائيين، وماركس، ولينين) ثم ينتقل لمناداة عدد من شعراء جيله (خزعل الماجدي، ورعد عبد القادر، وزاهر الجيزاني) وهكذا يؤثث النصّ مساحته التعبيريَّة برموز من مرجعيات ثقافيَّة مختلفة، مكانيَّة ودينيَّة وأسطوريَّة وتاريخيَّة وثقافيَّة، بمثابة تعبير وجودي عن غربة الذات الشاعرة وغربة الإنسان منذ سبعة آلاف سنة، لكن نجد خصوصيَّة للرموز المسيحيَّة التي تمثل مرجعيَّة الشاعر وهويته الدينيَّة، والتأكيد عليها عبر الانتماء للأرض بعمقها التاريخي ورموزها إنما يأتي لتكريسها علامةً ثقافيَّة تجسِّد الانتماء لجماعة محددة. 

 يشير عمر السراي في كتابه(الشعر والهويَّة) إلى ملمح مهم في تمثلات الهويَّة القوميَّة الآشوريَّة في شعر ألفريد سمعان من خلال مسرحيته الشعريَّة (ليمونا) متماهياً مع شخصيَّة الملك الآشوري في كفاحه ضدَّ الخيانة السومريَّة المتمثلة بزوجته، الأمر الذي يجعله يستلهم قوته من الفقراء المتمثلين بليمونا وحبيبها سالي. وسمعان الذي عُرف بانتمائه اليساري مكرّساً شعره لقضايا النضال ضد الاستبداد، وتمثل الروح الإنسانيَّة للتحرر، وفي الوقت الذي يحفل به قاموسه الشعري بمفردات الشيوعيَّة وعلاماتها الإيديولوجيَّة كالشغيلة والكادحين والتحرّر والثورة والسلام وغيرها نجده يكرِّس أيضاً البعد الثقافي الذاتي أو الجهوي لانتمائه الديني كما في قصيدة (إليك سيدة النجاة):

يا إخوة الإنجيل/ إنها تزهو بنا/ ونحن يا أحبَّتي نزهو بها/ بل إنها تمنحنا الرجاء عندما نقول/ : صلّي لنا يا مريم العذراء/ صلي للخطاة التائبين(ص57)

 وهذه القصيدة كانت رثاءً لما حدث من جريمة إرهابيَّة أودت بحياة العشرات من الأبرياء أثناء القداس، ولو أنَّ الحادثة استلهمها العديد من الشعراء من مختلف المكونات بوصفها جريمة نكراء من منطلق إنساني ووطني، إلا أنَّ الشاعر هنا يتحدث بلسان المنتمي وبروح التخاطب المسيحي، فثمة شعور مضمر بضياع الهويَّة من خلال استهداف المكان المقدس وتصفية المجتمع الذي يجد في الكنيسة خلاصه الأبدي ومحفله الخاص الذي ينطوي على حقيقة هويته. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الشاعر سمعان لم تدخل تمثلات الهويَّة المسيحيَّة في كيميائيَّة شعره، لا تصريحاً ولا تشفيراً، وذلك لغلبة الحس الإنساني والانتماء الوطني وهيمنة الخطاب الإيديولوجي موقفاً والتزاماً بقضايا الإنسان.

 برزت في الشعر العراقي أسماء كثيرة لشعراء مسيحيين مثل جان دمو وسركون بولص ودنيا ميخائيل، لكن لم تتسع تجاربهم الشعريَّة لما هو ذاتي من سمات الهويَّة الدينيَّة، وكانوا إنسانيين في نزعتهم وتجريبيين في توظيفاتهم وعراقيين في انتمائهم، فقد وظفت الشاعرة دنيا ميخائيل في مجموعتها الشعرية (الليالي العراقيَّة) رموزاً رافدينيَّة كعشتار وتموز، كما وظفت رموزاً فلكلوريَّة كشهرزاد وبساط الريح وغير ذلك وأوغلت في الهم العراقي من خلال توظيفها بعض العلامات الثقافيَّة (الشعبيَّة) المتداولة لكل مكون في قصيدتها (عراقيون وغيلان أخرى) لكن في النهاية يوحدهم الحزن على فقد أحبتهم، وقد وظفت الشاعرة بعض الخرافات الشعبيَّة بأسلوب تهكمي، لا بقصد الانتقاص من مكونات الشعب العراقي، أو من موروثاته الثقافيَّة، بل للتنبيه من تلك الثقافة الشعبيَّة وسردياتها العدائيَّة، ومما تضمره من أنساق عنفيَّة لإقصاء الآخر المختلف والحط من شأنها وترسيخ نسق الكراهية (ص60-61) من جانب آخر فإنَّ شخصيَّة السيد المسيح وظفت كثيراً في الشعر العربي لا بمحمولها الديني بل بمحمولها الثقافي ورمزيتها الإنسانيَّة، كذلك وظفت شخصيتا مريم العذراء ومريم المجدلية، كما وظفت شخصيَّة يهوذا رمزاً للخيانة، ووظفت الكثير من المقولات الإنجيليَّة إلى حد التأثر بلغة الخطاب الإنجيلي.