الحل النهائي

ثقافة 2023/05/17
...

إيمان المحمداوي

(قبل نيف من احتساب المغانم، التقينا، ما كنا نعلمُ أن مغامراتنا ستحتمي بعد ذلك النيف بالتقاطب أو التجاذب.. وعلى مرأى من الأمنيات، صاغتنا الفواتير الإلهية محض اختصارات لزمن أنسنته المرايا، ليكون كلانا في موقع الخسارة)، عبارة كتبها على الصفحة الخالية في آخر الكتاب الذي كان يتصفحه طيلة الطريق، ثم أخذ يحدّق عبر نافذة القطار نحو تلك الصحراء الموحشة، في شطحة ذهن، أخذ يتذكر رفيقه وهما في رحلتهما نحو النهاية، شعر بالوجع ذاته، الوجع الذي عاشه حين تطايرت أشلاؤه.

أخذت التساؤلات تهيمن على أفكاره الشاردة وهو يحدق في الصحراء القاحلة التي تمتد على جانبي سكة القطار. وعلى حين غفلة أحس بالقطار يتوقف، بينما ظلت تساؤلاته تلعب في رأسه: (أي محطة تلك وسط الصحراء؟!” في تلك اللحظة أقبل نحوه رجل، يرتدي زيا رسميا، ملامحه جامدة، ولا تنبئ عن أي مشاعر، وقف أمام كرسيه وهو يشير إليه:

- تفضل بالنزول.. هنا محطتك.

وعلى غير عادته انصاع لذاك الرجل من دون أي اعتراض، ليهبط من القطار بلا أمتعة، وحيدا لا يرافقه أحد، حتى رفيق رحلته الذي طالما شاركه كل مسيرته السوداء.. اختفى منذ أن تطايرت أشلاؤهما في الفضاء.

سرعان ما تحرك القطار ليواصل طريقه، وظل هو واقفا مكانه تحت أشعة الشمس الحارقة، والرمال الملتهبة تحت قدميه.

كان يراقب القطار المغادر وهو يختفي في الأفق البعيد، حتى بدأ يندفع مع عصف الرياح برغم انهيار قواه، وغدا مثل كرة تتدحرج فوق الرمال، سقط في حفرة حجبت حوافها المرتفعة بعضاً من أشعة الشمس الحارقة، تقوقع حول نفسه فالتفت أطرافه التي طالما كانت ممدودة كالأفاعي، تلتهم كل من يقف في طريقها، حينها كان يردد مع صاحبه:

  لسنا أول من سنّ مشروع (الحل النهائي)، لقد سنّه من قبل هتلر في الحرب العالمية الثانية، وسار على مبادئه كثير من الحكام قبلنا، حتى أصحاب المال، أبادوا شعوباً ومزجوا الدم بالطين، وبدّلوا خرائط دول حين تعارضت مع  مصالحهم.

 حشر جسده المنهك في جوف الحفرة، وهو يحلم بقدح ماء يروي ظمأه، أحس برغبة لا تقاوم في البكاء لكنه خشي أن تجفّ عيناه فلا يحظى بالدمع.

هناك، في عمق الحفرة، حيث ارتكزت قدماه، تدفق ينبوع دم، فقفز مفزوعا من مكانه إلى خارج الحفرة، أخذ يبتعد هاربا وهو ينظر نحوها إذ تحولت إلى بركة دم ينبعث من أعماقها أنين حزين. بدا وكأنه يهوي في الفراغ، بينما تدور حوله أخيلة بطيئة شعر بثقلها ووطأتها، أخيلة تضم نساء متشحات بالسواد يطفنَ حول تلك البركة، تتصاعد لعناتهن وتمتزج دموعهن بدم البركة فيأخذ الدم بالغليان، حينها تداعت ذاكرته إلى شاشة التلفاز وهي تنقل عويل الثكالى بعد كل مجزرة اقترفها بعد أن مدّ يده الطويلة فيها ليقطف رؤوساً تصدح بنداءات استغاثة، حينها لم يملك غير الهرب بعيدا من هول ما رأى، وعلى غفلة، هيمنت فراغات كونية هائلة امتزجت مع الظلمة، وكأن النهار تدثّر تحت رداء الليل، لم يستبح هذه الفراغات سوى عويل الريح التي حملت معها غباراً رصاصي اللون، شق لنفسه صراطاً ملتوياً وسط الظلام المدلهم، وهو يسوق معه مدنا تحمل رائحة الخوف والموت.

 تقوقع في جلسته على الأرض، وأخذ يخبئ رأسه بين يديه وركبتيه، ويرفع من حين لآخر ناظريه وقد انسلخت عنه غطرسته وهو في هيئته التي لا يحسد عليها، ينظر إلى مرور الناس الذين طالما ازدراهم وقادهم على صراطه الملتوي.. وإن حاولوا مشاكسة ذلك الصراط نفّذ فيهم (الحل النهائي) فيرمي بجثثهم في تلك القفار الشاسعة التي لا ينطفئ عطشها للدماء.

لا يعلم متى وكيف غافله النوم ليستيقظ وكأن ألف عام مرّ عليه وهو تحت شمس لم تحجبها الغيوم التي كوّنتها الأبخرة النارية وهي تتصاعد من تشققات جلده المتيبس، يتصاعد من بين حبات الرمل دخان يمخر عباب السماء، فتتوه ساعات النهار وسط الظلام، وتتوه معه مواقيت الزمان، تمر الأزمان مذعنة، وتمـر أسراب بشرية، حقيقية كانت أم خيالية، ملفقة أم مبتدعـة مـن مخيلته المتعبة، تلك المخيلة التي طالما كانت قادرة على التضليل وتزييف الحقائق. 

والغد يتلوه غد، واللحظات الميتة تتكدس بعضها فوق بعض ببطء.

سار مثقلا بالخوف واليأس وكل جسده يصرخ طالباً جرعة ماء.. حتى شعر بفرقعات المياه وهي ترتطم بالصخور، تراءى له ذلك النهر وهو يشق الصحراء، انبثقت من عينيه ومضة أمل فأسرع في خطاه نحو الجرف، اغترف بيديه جرعة ماء، فرأى قطرات دم أخذت تتساقط ببطء من بين أصابعه، ثم تخثّر الدم بهدوء حتى التصقت أصابعه ببعضها، واصطبغت بحمرة قانية......

نفض يديه من الدم وهو ينظر باتجاه النهر ليرى رؤوساً طافيةً حملتها الأمواج التي اصطبغت بلون الدم أيضاً، استقرت تلك الرؤوس فوق الصخور، حدّقت فيه بوحشية، لحظتها فقط، تذكّر أصحاب تلك الرؤوس حين تراءت له مئة جثة منحورة الرأس ترمى في النهر بأمر منه بعد أن نفث سيجارته وهو يتفاخر أمام طغيانه وجبروته (لن يقف أحد في طريقي، ويستمر في الحياة، فكل ما فوق هذه الأرض يخضع لسلطاني(.

سقط عند جرف النهر، وأخذ يسحب جسده بعيداً، سقط إلى الأبد، هلك ملكه وانغلقت بوابات ظلمه، فتضوّر جوعاً وعطشاً وهو يزحف على ركبتيه، وبين فرسخ وآخر تراءت له جثث طافية في الشوارع أو على الأرصفة.

 صدحت أصوات بشرية وهي تخرق السماوات، لتردد الأرض صداها، أصوات عرفها وضحك منها حين كانت تستغيث تحت التعذيب في ما مضى، واليوم تعلو تلك الصرخات المتوحشة لتنشق فراغات العالم، وينبثق من بين الشق طائر فضي عملاق، أفرد جناحيه فحجب السماء عن ناظريه وهو ينظر بذهول والطائر يصدر الأمواج الضوئية، اهتزت أعطاف الريح بقوة غريبة، وانسكبت كتلة النور الأبهى فوق الجثث المترامية، والرؤوس القابعة فوق الصخور.

 الأرض تفور بالماء الآن، تمحو آلامهم، وتزيح الدم عن أجسادهم، وهو يراقب بفزع حينا وأمل حينا آخر أن تناله كتلة النور فتنجلي عتماته التي عذّبته كثيرا.

رسم الطائر الفضي صراطاً مستقيماً وتناثرت من جناحيه ريشات فضية، وحطّت كل ريشة على جثة فانبعثت فيها الحياة والشباب والبهاء، وتحولت كل ريشة إلى جناحين لكل جثة؛ لتطير تلك الجثث على شكل حشود تعبر على شفا ذلك الصراط وكأنه حد السيف.