{الفرانكفوشعريّة}

ثقافة 2023/05/17
...

حسين العبد الله الشمري 


أودُّ أن أسجل في هذه المَقالة عنواناً مقتبساً مِن حَركةٍ مرجعيّة للحداثة الشعريّة، كانَت وما زالَت مهيمنةً على الذاكرة الشّعرية والوعي الشّعري، ما بعد “السيّاب” و”نازك” لاسيّما  عند روّاد “مجلّة شعر” الذين تبنّوا المفاهيم الثقافيّة والأدبية للاتجاه الفرانكفوني المتمثل بـ(رامبو ، بودلير ، بيرس، جاك بريفا)،

 هذه الأسماء التي نَقلت التجربة الشّعرية إلى معايير مختلفة عن السائد، في ظل قصيدة لا تبحث عن المعنى والموضوع بقدر ما تبحث عن “ اللغة “ و” العبارة “ و “الجملة”  و”الذات” تمثيلاً للكوني والمطلق،  و”الفرانكفوشعريّة” هو مصطلح أقترحه، يختصر الشّعريّة الفرانكفونية التي اجتاحتْ الوعي الشعري العربي منذ  العام 1958م  حتى الآن... في محاولةِ تسجيل هوية حداثية جديدة للشعر العربي، ويعدّ هذا التأسيس أمرا شاقاً  في ظل  تنوّع الاشتغالات الفنيّة التي تمنحها لغة الشعر العربي وضوابطه، لذا نجدُ الحداثة أحيانا ترتبط بالمغايرة الشكلية وتجاوز الشكل الواحد، وأحياناً تداخل الأنواع. بينما يظل الجزء الأهم منسيّاً في ظل عنايتنا بالنوع والشكل، والجزء هذا يتمثل بالمرجعيّة الثقافيّة للحداثة أو للتغيير، انطلاقاً من السؤال :  ما هي الأفكار والمؤثرات المرجعية التي جعلت الشّعراء يقدمون مشاريع جديدة للكتابة ؟.

يتجه الشّعر العربي الحداثي في  اتجاهين: الأول يمثل مرحلة  انفتاح المثقف على الوعي الأنجلوسكسوني(شكسبير ، والت ويت مان، ت.س.اليوت) الذي أسس لقصيدة  تقف في موضوعاتها على (الأسطورة، الرمز، القناع) كما في (المسيح بعد الصلب ، المومس العمياء...الكوليرا). 

والاتجاه الثاني الذي يمثل انفتاح المثقف العربي على الوعي الفرانكفوني (رامبو، بودلير، بيرس، جاك بريفا) الذي أسس لقصيدة لا تعير للموضوع والمعنى أهمية بقدر شغفها المفرط بتمثلات الذات والكون والمطلق. وإن هذا الأثر التاريخي المتمثل في الواقع الفرنسي استطاع شعراء من أمثال “بودلير” نقله إلى الفن وتجربة نوع جديد وأفكار جديدة في الكتابة انطلاقا من مقالة “رسام الحياة الحديثة” في دعواه  إلى الانتقالية والتحول وكسر الثوابت.  هذه الأفكار  كانت بمثابة وقود الماكنة الشعرية العربية الحديثة، حيث تمظهرت في حركة مهمة من حركات الحداثة  ألا وهي مشروع مجلّة شعر برئاسة “يوسف الخال”، وعضويّة “ أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وآخرين  “، إذ نظروا للخروج عن السائد والموروث  و تبني  التحولات  الفنية الحادة، وخصوصية اللحظة الراهنة .  وانطلاقا من هذه التوجهات تأسست الحداثة على فكرة وعي الفنان  المفرط بذاته، بوصفها مصدرا للقيم الجمالية على الحضور الطاغي للتقاليد الفنية الموروثة المتمثلة بالموضوعات الشّعريّة التقليدية .  كانت هذه الفكرة جوهريّة بالنسبةِ لتيارٍ “فرانكفوشعري” متنوّر ويملك من التجربة والاحتكاك بالعالم الآخر ما يؤهله لتبني مشروعٍ من هذا النّوع، بل أخذ العرب يطبقونَ المفهوم العدمي الذي ساد في الأدب الغربي  في أعمالهم الشعرية والأدبية وما زالت ذاكرتي تحتفظ بجداريّة  في مدينة لايدن الهولنديّة حملت نصاً للشاعر أدونيس وهو أحد رواد الحداثة  جاء فيه :


“الضياعُ الضياعْ...

أالضياعُ يخلِّصنا ويقود خطانا

والضياعْ

ألقٌ وسواه القناعْ؛

والضياعُ يوحِّدنا بسوانا

والضياعُ يعلّق وجه البحارْ

برؤانا

والضياعُ انتظارْ” 


يحمل النّص في مكنوناته مذهباً عدميّا وعبثياً واضحاً، ولم يكن كتاب “أزهار الشر “ لشارل بودلر أقل حضورا من هذا النص  في ما يخص عدمية المحتوى وتشظيه، بل نجد أن جذور ما كتبه الحداثيون العرب لم تكن جذوراً عربيّة  بقدر ما تمسكت بمرجعية غربيّة متأثرة بالتوجهات الفرانكفونية.  واللغة الفصيحةُ هي الحلقة الرابطة بين الموروث والحداثة، وفي ظل  صخب الحداثة.

وهنا أود أن أشير إلى أهمية البحث العلمي الذي يتناولُ الحداثة  في الشعر العربي من جوانبها الفكرية ومنطلقاتها المرجعية وكيفية تشكل النصوص الحداثية، بعيداً عن هوس الأشكال والقوالب، ففكرة الحداثة لا يمكن أن تأتي من فراغ ولابّد من  تأسيس مفاهيمي  وفلسفة ينطلق من خلالها الشاعر لتأسيس توجه جديد، أكبر وأهم من “شكل جديد” بل يمكن أن نعتبر الحداثة فلسفة غير معنية بالأشكال، فهي تتجسد داخل العمل الفني أفكاراً وأساليب وليست قوالب وأشكالا، فالقصيدة العمودية -مثلا- يمكن أن تكون حاملا من حوامل الحداثة الفرانكفونية عندما تتبنى منطلقات ومفاهيم هذا الاتجاه شعريّاً...  لذا أزعم أننا أغفلنا كثيراً حقيقة الحداثة، ماهيتها وطرقها، ومرجعياتها، وكيف يمكن ان تتمثل في نص باللغة العربية، وتمسكنا كثيراً بالشكل والنوع  حتى صار قضية  نقدية  متماهية مع الزمن، ويعود السبب إلى الفهم النقدي الذي ينظر إلى النص بنية لغوية فقط  قائمة بوحدات دلالية ذات معنى، وهذه النظرة البنيوية الواحدة أفقدتنا التركيز على المرجعيات والمفاهيم والقيم التي تجيء بها مشاريع الحداثة .