ديمقراطية الذهب

آراء 2023/05/17
...

 طالب سعدون


تعيش السودان حالة مركبة من الوضع الاقتصادي المتردي وعدم الاستقراروالفوضى على يد ابنائها، مما يزيد من انحدارها أكثر.. وصواريخ (الاخوة الاعداء) بدل أن ترابض على الحدود لحمايتها من غازٍ أو طامع توجهت صوب الداخل، تحصد أرواح الأهل وتدمر ممتلكاتهم الخاصة والعامة.. وكأن الشعب يصرف على القوات المسلحة من أجل قتل أبنائه وليس من أجل حمايتهم من معتد أو غادر، ويدفع ثمن الاطلاقة لكي يُقتل بها، وثمن الصاروخ لكي يُهدم بيته على رأسه، وثمن الطائرة لكي تدمر ما بناه على ارضه من مصانع ومنشآت ومزارع، ويعيش في ظلام بلا كهرباء ولا ماء ولا صرف صحيا وبلا خدمة صحية مناسبة لخروج المستشفيات عن الخدمة، بسبب قتال (الأخوة الأعداء)، وتتعطل الحياة ويهاجر الناس تاركين وطنهم ومنازلهم.

السودان أرضها ذهب لكنها لم تجد (سوار ذهب) آخر ينقذها من هذا الوضع، لكي يقرر أبناؤه من يحكمه من خلال (ديمقراطية الصندوق)، كما هي الدول الديمقراطية، التي يتعاقب على حكمها من يفوز فيها لمدة يقررها الدستور وبارادة الشعب وينصرف الجيش و(جنرالاته) لمهامهم العسكرية.

غريب أمر الجيش كيف له أن يتصور أن دوره في معارك الاستقلال ومقاومة المحتل أو قيامه بالانقلابات، يرتب له حقا في احتكار السلطة لتقع البلاد في دوامة الانقلابات والصراعات المسلحة أو الخلافات بين الطامعين في الحكم من (الجنرالات)، دون مراعاة لحقها في حكم مدني تختاره شعوبها من خلال الانتخابات..

 وفي السودان..صحيح أن الجيش وقوات الردع اشتركا مع القوى الشعبية في إزاحة الرئيس عمر البشير عن الحكم، على أمل أن ينتقل الحكم للمدنيين، من خلال الانتخابات لكنه صادر هذا الحق لأن عيني (الجنرالين) كانتا على السلطة ويخطط أحدهما للآخر، من أجل إبعاده والاستئثار بها لوحده.. وهو ليس بالامر الغريب.. فكما انقلب الاثنان على البشير يمكن أن تتكرر الحالة بينهما.. فالوقائع تشير إلى أن البشير حول (حميدي) من تاجر أغنام وإبل ومسؤول مجموعة من الميليشيات تتولى حماية القوافل بين السودان وتشاد وليبيا إلى جنرال وقائد لتلك الميليشيات التي اسماها الردع السريع لتساعده في الصراع الذي كان دائرا في دارفور ولم يربطها مع الجيش الذي كان يخاف من تمرده عليه بل جعلها قيادة مستقلة ترتبط به مباشرة، كما يتحكم (حميدي) بقوة اقتصادية كبيرة وسيطرة على مناجم ذهب تجعل منه قوة لا يستهان بها.. قوة مسلحة تجمع المال والرجال - نحو 100 الف مقاتل مزودين باسلحة مختلفة.

ما يحدث في السودان يمكن أن يجعل من سوار الذهب واحدا من (آباء الديمقراطية الكبار) ومن حقه أن ترتبط باسمه هذه التجربة الفريدة.. فليس لها سابقة في عالم العرب (الديمقراطي) ولو ساروا على خطاه لما حصل هذا الصراع بين (الجنرالين) والقوتين.

السودان بحاجة إلى سوار ذهب آخر ينقله من هذا الواقع إلى واقع آخر مختلف تعود السلطة فيه إلى (المدنيين) بعد أن جرب حكم (العسكر) ويحكم الشعب نفسه بنفسه من خلال صناديق الاقتراع..

ما يحصل في السودان يعيد إلى ذاكرة أهلها والعرب تجربة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب ويتذكرونه بالخير، لأنه صنع علامة خاصة به وسابقة تاريخية لم يكررها أحد بعده، بل على العكس أصبح التمسك بالسلطة تقليدا أو هي قدر لإناس دون غيرهم..

لم يتذرع بأي عذر للبقاء، ولم يغره بريق السلطة ولا تيجانها فيطلب التمديد.. لم يتعكز على دوره في إسقاط الحكم، ولم يطلب مقابل ذلك شيئا، بل يعده خدمة عامة للشعب وواجبا اخلاقيا ووطنيا..