قراءةٌ تحليليَّةٌ في رواية (عدن الخاوية)

ثقافة 2023/05/18
...

 أحمد طه حاجو

 تعد رواية (عدن الخاوية) للروائي البصري فاروق السامر من الروايات الثورية النقدية، ونستطيع أن نستشف ذلك من خلال التقنية المتبعة في الكتابة (الوصف الدقيق القصدي للأشياء والأحداث والأفكار)، وأن القارئ باستطاعته أن يستشعر الرسائل المضمرة التي أراد أن يمررها في روايته، والتي تحمل في طياتها، الفكر الرافض للحرب ومخلفاتها والداعي للثورة، وعلى مسار الراوية منذ الوهلة الاولى وحتى النهاية اي عند ختمها بعبارة: (قم.. قم.. أصحى يا نائم).


 عنوان الرواية (عدن الخاوية): الخواء بات ملازماً للرواية منذ الوهلة الاولى وحتى نهايتها، إن تعدد ذكر مفردة (خاوية، خواء، خاوي) على المدينة تارةً، وعلى صفات الرجل تارةً أخرى، وعلى الفكر والطبيعة الحياة أيضاً، فالخواء مفروض بالإكراه على تلك المدينة نتيجة الحرب، فأمطار من القذائف هيمنت على أرضها وسمائها على مدى سنين طوال. 

 الفكرة: تتلخص الفكرة العامة للرواية بمساعدة وقف اطلاق النار في الحرب العراقية الايرانية وعودة النازحين من اهالي مدينة البصرة إلى ديارهم، إذ يصف لنا الروائي حالة الدمار الذي حل في المدينة وانعكاساتها على شخصية الأفراد وأحاسيسهم والانكسار الذي طغى عليهم من رؤية المشهد، لا سيما أنّ تلك المدينة تمتلك من الجمال والهدوء والسكينة ما تفتقر له غالبية المدن العراقية، على المستوى المادي والمعنوي والبيئي.

 كما أنّ عملية الوصف تناولت الأماكن والمتغيرات التي طرأت عليها، فضلا عن شخصية الفرد المغلفة بالقلق والمعاناة والترقّب والخوف من المجهول، فتلك المرحلة كانت مرحلة زمنيّة هلاميّة، أي متغيرة وحبلى بالمفاجآت والموت والقتل والاعتقال والاغتيال والسجن على أقل تقدير، ومن يتصرّف عكس التيار المرسوم، ستكون عقوبته الإعدام. 

الأحداث: الهروب من الحرب والهجرة الجماعيَّة، وما له من أحاسيس عاشها غالبية سكان المدينة في خوف من الموت، وترك تاريخ وذكريات واستبدال مكان بكامله بمكان آخر لا يرتبط به الفرد أي نوع من أنواع الارتباطات وهو مجبور أن يتعايش معه من أجل استمرار الحياة ليس إلا، المقابر الجماعية للشهداء، وللفارين من الموت غير مبرر لهم، الاغتصاب، تصدير العهر والدعارة إلى العراق في فترة الثمانينيات من الدول العربية، العمالة وتجنيد العرب في الدوائر الامنية كمخبرين ووكلاء أمن، جميع تلك الاحداث شكلت نوازع وفجوات مجتمعية بين فئات الشعب العراقي في تلك المرحلة، فلم تفكر الدولة ببناء علاقة ثقة ومحبة مع الشعب لتنتج عنها روح المواطنة، بل على العكس كانت تفرض جبروتها بالقوة، وزج الشباب في فك الحرب من دون شفقة ورحمة، وترك أعداد الآرامل والأمهات المفجوعات بموت فلذات أكبادهن للتضاعف وللنواح والتسول والانحراف احياناً. 

إنَّ تلك الأحداث أسست ثقافة الفرض، وشرَّعت سياسة القوة وتكميم الأفواه، من خلال اعتماد مقولة (نفذ ثم ناقش) وبذلك ألغت الصوت الآخر من الحديث والحرية في التعبير.

لذا فإنَّ ذكر جميع الافعال التي اتبعها النظام آنذاك بجميع حيثياتها وتفاصيلها الدقيقة وما تركته من أوزار على الشعب، حققت فعلاً تحريضاً تجاه الأنظمة التي تتجاهل صوت الشعوب في أي مرحلة زمنية آنية أم مستقبلية، فالرواية توجها نقدها إلى فعل حكومي وابراز سياسته المتبعة وهي توجه رسالتها إلى نبذ تلك الأفعال في الزمان والمكان.  

الأماكن: تم ذكر العديد من الأماكن كشواهد للعصر على أوزار الحرب، مثل (الجزائر، العشار، حي عدن، حي صنعاء، ساحة سعد، نهر الخندق، الساعي، المقصب، جسر دينار، التحسينية، عمارة النقيب، سوق حنا الشيخ، حي السعدي، طرق الموت، سوق الحوريات، ساعة سورين، شارع الوطن، المنتزه، سوق الهنود، القشلة، ام البروم، 

فندق أور، شارع الاستقلال، المناوي باشا، الكنيسة).

إنَّ ذكر تلك الاماكن كانت علامة دالة واصفة إلى تلك المدينة الحالمة، وكل معلم من تلك المعالم كان محملاً بالذكريات، وكان مرتبطاً بذاكرة أهل المدينة وكل زائر إليها، لما يحتويه من ثيمة وصورة للحياة، أي أن تلك الاماكن كانت تهدي البسمة لأهل المدينة والفرح والهدوء، عدا طريق الموت، وإن ذكرها هنا دلّل على حيوية تلك المدينة قبل الحرب (قبل الخواء) وبعد أن باتت (خاوية)، كما أنه أعطى اثراً توثيقياً لتلك المرحلة، لأنها كانت بمثابة شهادات حية لوقائع حصلت بالفعل. 

البعد النفسي: إن الشخصيات التي تضمنتها الرواية (زينة، فرجين، باهرة، الجندي) أسس لهم الروائي أبعاداً نفسية واجتماعية واضحة، وتكاد تكون نتائج لثقافة مجتمع وبيئة سائدة آنذاك، أي أن المعاناة التي عاشتها كل شخصية منهم  مثلت معاناة شعب كامل تجمع في مدينة البصرة في فترة الثمانينات، كما أن أفعالها ارتبطت بموروثها القيمي والمؤثر عليه الواقع البيئي للمدينة، وكان لمعاناتهم أثر واضح في سلوكياتهم القلقة التي كانت نتيجة للفعل السياسي المتحكم بهم والراسم لطريقهم، بغض النظر عن الصح أو الخطأ، فكان الرد المجابه لـ (السامر) واضحا ويمتلك الحس الثوري والناقم على العنصر المسبب، عبر المبالغة في وصف الاحاسيس وجمالياتها، أي أن التأكيد على إبراز الأحاسيس والآلام التي سببتها الحرب، يعطي الاثر المباشر للقارئ بضرورة أن يقول كلمته، لا أن يظل صامتاً.

ثنائيَّة القلق: شكلت الأحداث بتعددها وتنوعها مع تعدد الشخصيات، ثنائية (القلق- الهدوء) كانت تسير بصورة متوازية مع سير الأحداث، أي أن الشخصيات حاولت الحفاظ على نفسها من القلق المحيط بها بالهروب من المجتمع والانزواء والاحتماء بالوحدة والهدوء، فصيحات الضمير والمناقشات التي كان يمررها (السامر) بين الحين والآخر، كتوضيح أو كشف لمكنونات الشخصية أو كمصارحة للذات كانت تعمل عملاً دقيقاً في محاسبة الشخصيات لأفعالها ومراجعة نفسها بين الحين والآخر، مثل (كان عليك أن تغادري هذه الحياة، منذ أن غادرتها فرجين، ومنذ أن اغرقتك الكلاب بمائها الآسن، علام تنتظرين؟ وما الذي ستجدين؟)، وفي مكان آخر (حين يكون العيب في النساء فإن الرجال يطلّقون على الفور، وإذا انعكس الأمر فليس بمقدور المرأة أن تتخذ قراراً مماثلاً فتذهب حياتها هباء، إنني اعطي للمرأة حرية الاختيار وحق التفريق في هذه الحالة) وغيرها الكثير، وكان يتطلب من ذلك خلق جوٍ من الهدوء والاستقرار، ليحقق نوعاً من التوازن من جهة ومن الفهم لفلسفة الحرب ونتائجها من جهة أخرى.

فالمرأة وواقعها، كان مثيراً للجدل داخل الرواية وعبر ذكر مواقف متعددة، ورأينا قدرتها على المواجهة واتخاذ القرارات المصيريَّة، لا سيما (زينة) ومجازفاتها في الخروج في المدينة الخاوية فترة الحرب، وهي تتطابق مع شخصية (نورا) في مسرحية (بيت الدمية) للكاتب النرويجي (هنريك ابسن) تلك المرأة التي غيرت النظرة الدونيَّة للمرأة آنذاك. 

الصوت النقدي: كان لذكر بعض الحبكات الثانوية فعلٌ نقديٌ، فمثلاً ذكر المعلمين والمعاناة التي كانوا يتعرضون لها اثناء ذهابهم إلى المدارس وخطورة الطريق الذي يعج بالأفاعي والعقارب وغيرها من الزواحف التي يجهلون أسماءها، فضلا عن مستوى المدارس والكيفية التي يصلون بها إلى المدارس. إن ذكر تلك التفاصيل بدقة، تعمل على إثارة الحس النقدي والانتقادي للقارئ وتستنهض نفسه لرفض الواقع المفروض عليه، كما أنها تثير روح البحث والمقارنة مع واقع دول الجوار ومستوى التعليم لديهم. 

كما أن ذكر تفاصيل الحياة آنذاك في مرحلة الحرب بالدقة الواصفة لأحاسيس الشخصيات، عملت على اثارة التأمل في أسباب الحرب ومبرراتها المنطقية، وهل كانت ضرورة؟ أم لا؟ 

الرمز: كان للرمز استخداماته المتعددة في الرواية وأبرزها (الكسوف) شدة اللون الاصفر بروزه في السماء، والذي كان يدلل على فظاعة المشهد والواقع في تلك المرحلة، فاللون الاصفر رمز الموت، والكسوف هذا الفعل المرتبط بطقوسه الخاصة والذي يشير إلى ضخامة الدمار في تلك المدينة التي باتت خاوية بعد أن كانت رمزاً من رموز الحيوية والحركة والحياة.

الفلسفة العامة: أراد السامر من خلال الرسائل التي أرسلها إلينا عبر رواية (عدن الخاوية) بأن الخلاص محال، لأن اليأس قد خير على المدينة، وجعلها خاوية بكل المعاني، وانتقل الخواء إلى أهلها عبر مواقفهم ويأسهم، فالخلاص محال ما لم يتدخل المخلص، فأشار في الرواية في الربع الأخير منها، فالخوف من ولادة الأطفال هو عكس للمنطق، فالموقف الطبيعي بأن الزوج ينتظر خليفته عندما يتزوج، في حين في تلك المرحلة بات الرجال يخافون من مجيء الأطفال خوفاً عليهم من أن تلتهمهم ماكنة

الحرب. البأس المطبق الذي ساد على فكر ووعي الناس في تلك المرحلة جعلهم ينتظرون (المخلص) و (المهدي)، لأنهم يئسوا من أي حل قد يكون متاحاً، فكانت المناجاة الاخيرة عبر الحديث مع (الطيف) و (زحل) فلا حلول متوافرة على أرض تلك المدينة، فالحياة باتت مستحيلة وكانت الدعوة للحياة في كوكب

(زحل).