سقف الحبِّ

ثقافة 2023/05/18
...

 حاتم حسين


ليس ثمّةَ محاليلٌ كيميائيةٌ قريبةً منه ليصابَ فجأةً بهذه العدوى الفايروسيّةِ. ولم يكن يرتدي نظاراتٍ طبيةً (وسخة) أو هناك شعرة دخلت عينيه كي تلتهبَ بهذه السرعةِ ليفرزَ ويستنزفَ كلَّ أكياسِه الدمعيّة والصديد. وهو جالس يُحدّقُ في فديو جذبَ انتباهه، وسبّبَ له كلَّ هذه الحساسية؟ ترى ما الذي يحمل مضمون ذلك الفيديو؟ وكأنّ دوارًا عاصفاً أصاب رأسه. فالاحمرار يبدو غريباً في بياضِ عينيه. لا بدَّ من أنّ جسماً غريباً ولجَهما وأصابهما. بل حتّى وصلَ شغافَ قلبِه. بل هناك تشوّشٌ فظيعٌ في الرؤية. وهو يحاول أن يمسكَ ويسيطرَ على نفسه ويسير! حقّاً إنّه شيءٌ وإحساسٌ مريبٌ ينتابهُ لأوّل مرةٍ، وهو يرى شعرَها الطويلَ بين أصابعَ غريبةٍ. (الكوافيرُ) الذي يمسّدُ شعرَها. هو الذي سبّبَ له كلَّ هذا الاحتراق وهذا الأم. حتّى أنّ بعض أصدقائه لفت انتباهَهَم احمرار عينيِه وأشاروا عليه بضرورةِ مراجعة اختصاصي العيون خوفا عليه من العَمَى. لم يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ. بل ضرب أعماقَه وخلقَ له شعوراً بالغثيان والظمئ الشديد، وصار أشبه من يعاني من قرحة المعدة. حار الطبيبُ، وهو يتفحّص تحاليلَه ولم يصل الى هويّة هذا الفايروس، وهذا المرض الذي جعلهُ فجأةً أشبه بالأعمى. ما زالت الموسيقا تراقص يديه، وهو يمرّرها بحركات رومانسية تتهادى بين خصلات شعرها. لكنّ الصورة أشدُّ وقعا. وأشدُّ تأثيرًا على قلبه. سأله صديقَه الذي سار معه الى الطبيب: ما الذي جرى لك يا صديقي؟ كنتُ أراقبك وأنت مرتاح تتفرّج على الفيديو. أخبرني أرجوك ولاتخبّئ عنّي ما في قلبك. أنا أعلم كم تحبُّها. وكم هي مستحوذة على قلبك. أرجوك دعني أساعدك، فأنا صديقك الوفيُّ. مال برأسه وضرب بـ (بوكس) على كفِّه الأخرى بقوّةٍ وقال: هل تذهب زوجتُك الى كوافير الرجال؟ أجابه بسخطٍ: لا أكيد لن تذهب.

- إذن كيف تريدني أن أقبل، وأنا في قريةٍ أحترمُ تقاليدها. فكلُّ نسائها يذهبن الى صالونات النساء. ألّا هي!!

تنهّدَ صديقُه وهزَّ رأسه وقال: إذن هذه هي مشكلتك. وفي اليوم التالي أخبرته زوجته إنّها بصدد الذهاب للكوافير. وفجأةً تحمّس لفكرةِ صديقِه وسألها: هل تذهبين الى كوافير الرجال أم النساء. استغربت لسؤاله؟ وقالت: لأوّل مرةٍ تطرح عليَّ هذا السؤال أكيد أنا ذاهبة الى كوافير النساء. اطمئن عزيزي. لكنَّها ظلت تردّد مع نفسها؟ ما الذي أصاب زوجي لكي يسألني مثل هذا السؤال. فكّر في نفسه، وقال بهمس: ليس كلُّ الرجالِ على مستوى واحدٍ من الفهم، وليس من حقّه أن يفرضَ رغبتَه ورؤيتَه وإرادته على حبيبته. مع ذلك بقيَ المشهد حبيسَ نفسِه المضطربةِ بأن يتركها. وينساها. ويقلّب صفحتها. في مشهدٍ أعتبرهُ وقاحةً لم يخطر له على بالٍ. وتصوّرت أن المشهد سيمرّ مرورَ الكرامِ ولم تحسب حسابَ شعورِه وصدمته، وهي تعرض عليه هذا المشهد وعلى الملأ، رُبّما حاولت أن تختبره. وتصوّرت في نفسها أنّه سيبقي على حبِّه لها. وتمنّى في نفسه أن تقدمَ لهُ اعتذارا. وأن تخجلَ من سوء تصرفها المفاجئ له. وفي غمرة تأزّمِه وانفعالاتِه حاول أن يجد لها عذرا. فهي الفتاةُ المتحررةُ البريئةُ الواضحةُ العلانيّة التي لا تخفي شيئاً عنه. رُبّما بدت مثل رسالة حاولت إيصالها لهذا الشاب القرويّ الذي جاء الى بغداد ليتعينَ بشهادته الإعدادية. كانت جميلةً ورشيقةً تبادلُه شتَّى أنواع الشعور والحركات والقبلات الخفيّة التي لا يفهمها غيره. كان من الصعب عليه أن يجبرها، وهو الذي أقسم في داخله أن.. (ولا تمسوها بسوء) فقط كان أمامه خيارٌ صعبٌ في ترك الماضي الذي تبلور أمامه اليوم من أنّها ليست الفتاة التي سعى وفكر بالارتباط بها، والعيش معها بكلِّ أبجديات التفاهم والتوافق. كان يبحث عن خيط قوّيٍ يجمعهما الى الأبد. تلك الإنسانة التي تعرف ربَّها. وخطواتها وحدودها بين الحلالِ والحرام. أدرك مؤخراً مساوئ هذه الاختلافات التي ترهق الحياة الزوجيَّة وتفضي الى الفشلِ والضياعِ

حمدَ الله من أنّه مازال على البرّ، مازال يختبرُ خطواتِها. لم يكتمل اللقاءُ بينهما الى الآن لكي يكلّمَها أو يسمع صوتها على الهواء مباشرة وجهاً لوجه. أو في معاهدته أن تبرم وتبصم له اتفاقا وعهدا. لم يبرد قلبُه من ذلك المشهد، بل بقي على جمره، وغليانه. حاول أن يتفاهم معها لكنّها ظهرت له بمشاهدَ أُخر أكثر جبروتا وعنادا. تمنّى أن يجمعهما سقفٌ واحدٌ تحت رضى الله واحترام التقاليد والأعراف. لم يكن أمامه إلّا أن ينهي ويوقف نزيف حبِّه الذي ضاع معها، وظلَّ حبيسَ قلبِه يصارعه. أقسم في داخله ان لا يلج عالمها ثانيةً كي يخفّفَ من تأثيرها عليه ويمحوها من قلبه وذاكرته. هكذا حاول تخفيفَ شحنتها وتأثيرها عليه رغم أنهّا تشكّل له كلَّ حياتِه وكلَّ اهتمامه. لكنّها ظهرت له بمشهدٍ لم تألفه عيناه.