القصُّ الياباني مرآةٌ للواقع وسبرُ معاناته

ثقافة 2023/05/18
...

 سريعة سليم حديد

بين أيدينا مجموعة قصصيَّة تحت عنوان (العظاءة) للكاتبة اليابانية «بنانا يوشيموتو» ترجمة غادة جاويش. يحمل الكتاب بين طياته موضوعات غريبة بأسلوب لطيف يعكس الواقع الاجتماعي الياباني وبعض هواجسه.قصة (المتزوِّج حديثاً) هي القصة الأولى في المجموعة، تمتاز بتقنية أسلوبها السردي وغرابة الفكرة التي اعتمدت عليها المؤلفة في رصد الحالات النفسية والمشاهد المميَّزة.  فالرجل الذي يجلس في القطار، يجلس قربه فجأة رجل برائحة غير مستحبَّة، مما يجعله يغمض عينيه، لكن رائحة نسائيَّة عطرة تجعله يتحمل الرائحة البشعة، بل ويتجاوزها، فيتراءى له غياب ذلك الرجل بطريقة غريبة حيث أخذت مكانه امرأة جميلة معطرة فقلبت بوجودها الخيالي موازين الرحلة.

من هنا تندفع أغصان القصَّة لتثمر عن حالة غريبة تنتاب الشاب المتضايق من الرائحة المزعجة، وقد تجاوز المحطة المؤدية إلى منزله. نقتطف:

«كلانا جلس صامتاً.. كان صعباً عليَّ أن أغادرها، فقط شعرتُ، وكأننا نترافق منذ زمن طويل.. كأنّنا لهونا في كل مكان في (طوكيو).

كان في نيَّتي أن أقول بضع كلمات أخرى، حين التفتُ لأجد ذلك المتشرِّد القذر ينام بسلام إلى جانبي.

انتهت محاورتنا.

أبحر القطار نحو المحطة ببطء وهدوء كسفينة. سمعت باب العربة يفتح فوقفت.

وداعاً أيها الرجل الذي لا يصدَّق.» ص22 

بهذه الخاتمة أقفلت الكاتبة الباب على عنصر الدهشة التي من خلالها يكتشف المتلقي كم المؤلِّفة بارعة في فنية البناء القصصي وحسن الختام، فالرجل قام بهذا التلوُّن الخيالي من خلال إيهام نفسه باستبدال فكريٍّ لا حقيقي، فاستبدل بالرجل القذر امرأة جميلة بعطر مميَّز، وأنشأ حواراً جذَّاباً معها مما جعل نفسه يصدِّق الأمر وكأنه يحدث حقيقة، وذلك كي يستطيع تقبُّل ذلك الوضع المزري الذي يدفعه لتحمُّل رائحة ذلك الرجل من دون أن يوجه له أية إساءة. 

- قصَّة (العظَّاءة) هي قصة احتلَّت عنوان المجموعة القصصيَّة بما تحمل من فكرة لطيفة ومشاعر مميَّزة يعيشها بطل القصة الطبيب حيال فتاة جميلة ببريق عينيها السوداوين وحلاوة جسدها النحيل وبساطة ثيابها الرائعة، نقتطف:

«سوف أسميها (العظَّاءة) لكن ليس بسبب وشم العظَّاءة الصغير الذي اكتشفته على باطن فخذها.

امرأة ذات عينين واسعتين سوداوين، تحدِّقان بك في حياء تام كعيون الزواحف، كل انحناءة في جسدها الصغير باردة الملمس...»ص24 

- أسلوب التشويق اتبعته الكاتبة بأسلوبها العاطفي المحموم المحمَّل بموجات وجدانية قلَّ نظيرها، فهي تعرف كيف توظِّف الكلمات لتقود المعنى إلى نهر الدهشة وتسقيه من إبداعها الرائع، بذلك تحمل المتلقي على المتابعة بمتعة واهتمام من خلال تتابع المشاهد رقة وعذوبة.. من دون الشعور بالملل أو حتى مواجهة الأفكار غير المستحبَّة. 

-العظاءة تشعر بالذنب، لقد قتلت المجنون الذي داهم بيتها، ولكن كيف؟ بطريقة لا تخطر على بال، لقد دعت عليه في صلاتها أن يُقتل بحادث سيارة، وقد تحققت لها أمنيتها، فقُتل المجنون، ولحقتها كارثة تعذيب الضمير.

- حكاية غريبة عند منتصف النهر. هذا عنوان القصة السادسة في المجموعة. القصة تعكس مجموعة من القضايا الاجتماعية التي يعاني منها عدد من المجتمعات، وأهمها على الإطلاق العلاقات المثليَّة، حيث تعرض المؤلفة علاقة حميمة بين فتاتين في غاية السعادة والوفاء والحب، لكنها في الطرف المقابل تعطي الحل للخروج من هذا الخلل الاجتماعي إلى الحالة الطبيعيَّة لعلاقة جديدة تعيشها (إكيمي) مع شاب يناسبها في العمر وبعض الصفات الأخرى.

تتخلل القصة حادثة عصبية تقوم بها الأم حيال طفلتها (إكيمي) وقد رمتها في النهر وكان عمر الطفلة أشهر عدة. هذا التوتر العصبي كان نتيجة خيانة الزوج لأم (إكيمي).

حين تكبر (إكيمي) وتعيش قصة حبِّها مع الشاب الذي سوف يتزوجها، يفضي والدها لها بما فعلت بها أمها على ضفة النهر. من هنا ومن محاولة إحدى الصديقات تخريب علاقة الخطوبة بين (إكيمي) وخطيبها تتجلى الحلول الأخرى لحل مشكلة المثلية بطريقة سلسة واعية. نقتطف:

«للمرة الأولى أشعر بإمكانية القفز بعيداً من مكاني المتخيَّل كمركز للكون، وأرى نفسي جزءاً من شيء أكبر. عندما أنظر من تلك النافذة ـ كل صباح ـ إلى النهر، أرى الماء يتلألأ مثل مسحوق الذهب بهياً مثل النور الذي بداخلي. أتساءل إن كان هذا ما اعتاد القدماء على تسميته الأمل.»ص166

تتوغَّل القصص في المجموعة بشكل عام في عرض أزمات الواقع الاجتماعي المعاش، فتتماهى مع الحب والمغامرة، مع الإتيان بأفكار جديدة وحلول غير مطروقة وذلك عبر خيال خصب خلاق وحس إنساني عال إزاء تلك القضايا الاجتماعية وما خلفته من ندب وجروح في الروح الإنسانية.

المجموعة ترجمتها عن اللغة الانكليزية: الأستاذة غادة جاويش، بأسلوب شيِّق تجاوزت فيه حدود الترجمة العادية لتنتقل إلى حالة إبداع من خلال المحافظة على روج النصوص وحيويتها، فقد أوصلتنا إلى شرفات جميلة متقنة الصنعة، فلم نشعر بأي خلل أو بأفكار

غامضة.