أعداء الحياة

آراء 2023/05/18
...

 رعد أطياف

 تصادفنا الكثير من المواقف الكوميدية في حياتنا اليومية. يذهب الكثير من هذه الحكايات في طيّ النسيان، ويعلق ما تبقى من هذه الذكريات كونه الجانب الذي يحاكي الجزء الأكبر من أعماقنا، أو بتعبير آخر، لأنه ينطوي على مفارقة تضع الذات الإنسانية أمام مشهد فضائحي مكرَّر ما جعله مألوفاً حد الملل، أعني به بالضبط تعبئة سمومنا النفسية ومراكمتها، ومن ثم نقذف بها على الآخرين على شكل نصائح مجانية نتقمص فيها دور الناصح والحكيم، وفي الحقيقة لا شيء يتحقق من هذا سوى أننا يحلو لنا التحدث مع الآخرين بوصفهم نسخنا المشوهة.

حين يكون الآخر نسخة مشوهة عن ذاتي فما يحدث هو رجع الصدى؛ افتضاح نفسي من نوع آخر يكشف ذاتي ويضعها عارية أمام الشمس. بيد أن هذا الافتضاح لا ينكشف بتلقائية ويسر عند عموم الناس، ويبقى هؤلاء أسارى بيد السيد «الناصح» وفضائله المزيفة. وبهذا القدر من الزيف يتواجد العديد من المثقفين المُزيفين، والمفكرين المزيفين، ورجال الدين المزيفين. جوهر زيفهم يكمن هنا: يصدرون أزماتهم الخاصة بوصفها ملكا مشاعا! أنهم لا ينظرون للآخر بوصفه جزء من هذا الكل العلائقي، مع الحفاظ على الفرادات، وإنما يشوهون هذه اللوحة الكلية بتلويث «الآخر» باعتباره نسخة مشوهة منهم؛ النسخة السامة التي نصدرها لهذا الآخر الافتراضي.

إنهم يمضون معظم أوقاتهم للتحشيد بطريقة غير مباشرة لوجهات نظرهم وعاداتهم، ليس لفائدة الغير، وإنما ليمنحوا مشروعية لما يقومون به. وبهذا يضفون نوعاً من الراحة النفسية لإشارات التحذير وعدم الرضا التي يقوم بها شاهدهم الداخلي. بعبارة أخرى: يعوضون تأنيب الضمير من خلال إقناع الآخرين ليقوموا بأفعال مماثلة لأفعالهم، إنها محاولة عنيفة ومحزنة بالوقت نفسه للإجهاز على مصادر براءتهم الخاص، وأعني به الشاهد الداخلي، ليبدو كل شيء على ما يرام، وأفضل طريقة لهذا الالتواء على الشاهد الداخلي هو تلويث أكبر عدد ممكن بتدعاياتهم النفسية.

يتوسلون الآخرين بكتابات متنطّعة لحشر الآخرين في خانتهم المظلمة ودعاواهم السلبية. كل هذا يجري بدافع المكيدة بأنفسهم والآخرين. المضربون عن الزواج يكافحون ببسالة متناهية لإقناع الآخرين لكي لا يتورطوا بالزواج. الفاشلون بحياتهم يسخرون قدراتهم الإقناعية لجر الناس إلى العدمية واللا جدوى. كلُ يبحث عن نسخته المرآتية؛ النبلاء يقتربون ويندمجون بنظائرهم بحث عن إمكاناتهم الخاصة، العاطلون عن الحياة تمزّقهم أفكارهم السامّة شرّ مُمَزَّق ويتنكّرون على هيئة ناصحين، وقد هيأت لهم مواقع التواصل الاجتماعي ما لم يتهيأ لأي جيل من العاطلين على مرّ التاريخ.

الضغائن والأحقاد لا يمكنها أن تتحول إلى براهين علمية. لكن يحلو للكثير منّا ترجمة انفعالاته السامة وكراهيته للحياة إلى قضية رأي عام، محاولًا تسميم الحياة بإدراج أكبر عدد ممكن ممّن يشبهوه باحتراف الضغينة. ولأن الكثير من الناس بلا عالم خاص لم يكدحوا لإبداعه وإظهاره للوجود، يستعيضون عن هذه التجربة الوجودية المثيرة بعالم مزيف ليس من صنعهم؛ عالم افتراضي جاء بمنزلة الأرض الخصبة لزراعة ضغائنهم والسهر عليها. ولا يفصل العقلاء عن هؤلاء سوى «لكم دينكم ولي دينِ».

الجهل تراجيديا وجودية مؤلمة أعيت الأنبياء، والفلاسفة، وعموم المثقفين؛ الأنبياء عالجوه بالفضائل الدينية، والفلاسفة تمثّلوه على شكل سلسلة من المشكلات. أما هذه الجيوش، التي لا عالم لها، فقد تمثّلوه على شكل نزوعات حزينة ذات طبيعة إسقاطية، أي لا يمكن لهذه النزوعات أن تثمر لوحدها ما لم يشاركوها هؤلاء في ما بينهم على شكل نصائح متبادلة! وكأن ثمة حلفا تاريخيا طويلا بينهم أن يسمموا الحياة، ويعلنوا حرباً لا هوادة ضد كل أشكال للحياة.