أحمد الشطري
لعلَّ من أساسيات فلسفة بناء الدولة وضمان ديمومة استقرارها، هو التخطيط العلمي لسيرورة حاضرها والتأسيس الواعي لمستقبلها. ومما لا شك فيه أن التأسيس للمستقبل يحتاج إلى قاعدة رصينة يهيئها الحاضر، قادرة على فتح مجال الرؤية والاستشراف لذلك المستقبل.
ومثل هذا البناء يحتاج بكل تأكيد إلى جهود مخلصة ومضنية، تكافح وتجتث جذور الأنانية والفساد الإداري والتفكير الضيق، وتسعى إلى إزالة كل ما يعيق عجلة التأسيس للمستقبل المرجو.
إن التفكير الآني والمتقوقع داخل دائرة المنافع الذاتية الحاضرة هو المِعْوَل الذي يهدم قواعد الدولة سواء كان عن دراية وقصدية، أم عن غفلة وعدم وعي، ومن هنا يجب أن يكون لمبدأ التخطيط العلمي الدور الأساسي في اقتراح المشاريع المؤهلة لصنع أرضية صلبة تستند عليها قواعد بناء المستقبل، وتشريع القوانين الضامنة لديمومة ذلك البناء وحمايته، والابتعاد عن العشوائية التي تمنح أيدي الفساد المجال للتنافذ والعبث بما تمتلكه من حرفية ومهارة؛ لتحقيق مصالحها اللاشرعية.
ولعل من أحد أهم القواعد التخطيطية للمشاريع التنموية المستقبلية هو عملية دراسات الجدوى بكل أنواعها، بيد أن تلك الدراسات تصبح قاصرة إن لم تنفتح على رؤية واستشراف للمستقبل البعيد، واقتصارها على التفكير بالجدوى الآنية التي لا يمكن أن تعكس حقيقة المنافع التي تحملها المشاريع التنموية، وهذا ما يتجلى - بإحدى صوره - في الإصرار على الاعتماد على الجانب الاستيرادي للبضائع والسلع والمواد اللازمة للمشاريع بمختلف أشكالها، دون التفكير أو التخطيط لتصنيعها محليا، أو توفير الدعم الضروري للصناعات المحلية وضمان الأجواء المنافسة لها، عبر سلسة من قوانين الحماية؛ لإعطائها مؤهلات الديمومة والتطور المستقبلي.
إن الفساد المالي ليس هو الأرضة الوحيدة التي تنخر أساسات البلدان وتضعف هيكلها الاقتصادي، بل لعل تبديد الثروات أو شرعنة تبديدها هو العنصر الأهم والأساسي لنمو وتكاثر تلك الأرضة الهدامة، كما أنه المنفذ الذي يتيح للفساد المالي والسرقة الوصول إلى غاياته. ولعل من إحدى وسائل هذا التبديد هو الركون إلى الاعتماد على الدول الأخرى في توفير الاحتياجات الضرورية من مواد غذائية ومواد الوقود المصنعة بمختلف أشكالها، والمواد الطبية.
بل ربما يشكل هذا الأمر نقطة ضعف، تمنح الآخرين نوعا من الهيمنة السياسية والاقتصادية على تلك البلدان، وخلق نوع من التبعية اللا مباشرة.
إن من أهم واجبات الحكومات هو السعي لبناء مستقبل واضح المعالم وراسخ الأسس لمستقبل بلدانها، وذلك لن يتم ما لم تكن هناك إرادة حقيقية وواعية لصناعة ذلك المستقبل وتهيأت المستلزمات التي تضمن للأجيال القادمة تماسكها ووقوفها على أرض صلبة ومستقرة، اقتصاديا وسياسيا وعلميا وثقافيا.
وإذا كانت الحكومات السابقة لبلدنا قد فشلت سهوا أو عمدا في إرساء قواعده في بلدنا، وبقيت أسيرة الفوضى واللامبالاة والنظر الضيق، والسعي وراء المنافع الشخصية والحزبية والتعكز على عصا مخلفات الماضي، فإننا نأمل أن يكون قادة الزمن القادم أكثر حرصاً وعزيمة وإرادة في تصحيح المسار، واقتلاع ما تجذر من الفساد وغياب الوطنية، والسعي الجاد إلى إيجاد خطط طويلة الأمد لا ترتبط بالزمن الافتراضي للحكومات، مع توفير الأرضية الضامنة لتنفيذ تلك الخطط من خلال بناء حكم مؤسساتي قائم على الكفاءة والولاء للوطن، وليس على الولاءات الضيقة.