بغداد من دون دجلة

آراء 2023/05/18
...

 نرمين المفتي 


يعتبر العراق ليس العراق في ذيل القوائم، التي تنشرها المنظمات الدولية، استنادا إلى استبيانات أو وقائع وللمثال وليس الحصر، جواز السفر العراقي، الذي يقبع وعلى مدى سنوات في ذيل القائمة بين أسوأ خمسة جوازات سفر، بل يتصدر بعضها أو يكون بين الدول المتصدرة مثل الخاصة بالفساد والجفاف.

فقد العراق في أقل من اربع سنوات واستنادا إلى بيانات وزارة الموارد المائية، حوالي ٥٣ مليار متر مكعب من خزينه المائي، ليصبح في المرتبة الخامسة على مؤشر الجفاف العالمي..

بعد صيف في ثمانينيات القرن الماضي وبعد شتاء شحيح المطر، أحزنني منظر نهر دجلة ومستوى مياهه المنخفضة، وتخيلت ان الكرخ والرصافة يلتقيان والنهر اختفى.. وبدأت تحقيقاً صحفياً عما يجري. المعروف أن نهر دجلة كان يستخدم للسفر بين المدن التي تقع عليه، وكان يستخدم لنقل البضائع ايضا على مر التاريخ. وتوقفت مع بداية الستينات. اكتشفت وأنا اشتغل على تحقيقي الصحفي مديرية عامة للنقل النهري حينها في وزارة النقل، رغم عدم وجود اية وسائط نقل نهرية سواء بين المحافظات أو في بغداد، وكان التنقل بالزوارق البخارية بين صوبي بغداد وفي مناطق محددة، جهود فردية وليست حكومية. كانت المعلومات التي حصلت عليها مفجعة، فالنهر كان يساق إلى الموت تلوثاً، بسبب النفايات التي كانت ترمى فيه، خاصة من المستشفيات المطلة عليه، وهي نفايات خطرة وممتلئة بالجراثيم وميكروبات الأمراض المعدية وغير المعدية ونفايات المناطق الصناعية. وفي بعض المواقع، خارج المدينة، كانت حوضيات التنظيف ترمي بفضلات البيوت الثقيلة في النهر ايضا، ناهيك عن عدم وجود عمليات الكري، التي كانت سبباً في تجفيف الشاطئ وتحويل ما يعادل ١٠ سنتيمترات من مجرى النهر سنويا إلى ارض يابسة. نشرت التحقيق في مجلة (الف باء) تحت عنوان (بغداد بدون دجلة)، وتساءلت في المقدمة، «تخيل أنك تصحو يوما فلا تجد دجلة». كان التساؤل صادماً، وكانت الأجوبة التي سمعتها من المغرمين بدجلة فيها الكثير من الخشية أن يكون حقيقة يوما ما بسبب ما نرتكبه ضد هذا النهر، الذي كان شريان الحياة وملتقى الحضارات والعشاق والشعراء والقمر. كان ذلك التحقيق سبباً في البدء بعمليات كري واسعة وفرض غرامات على الذين يرمون النفايات في النهر حتى إن كانت دوائر حكومية. 

وتوقفت مع سنوات الحصار، عمليات الكري وكانت (إكرامية) صغيرة كافية في عدم دفع الغرامات واستمرار رمي النفايات في النهر. اتذكر ذلك التحقيق كلما رأيت انخفاض مستوى المياه وظهور جزر جديدة، والكارثة أن بعض هذه الجزر بدل كريها وتنظيف مجرى النهر تُحوَّل إلى الاستثمار، الذي يعني احياناً توسيع الجزرة وبالتالي التأثير على مجرى النهر بإضافة أطنان من الأتربة لتتحول الجزرة إلى مطعم استثماري، وقطعاً سترمي نفاياتها ايضا في النهر.. ما يجري ضد دجلة، قطعاً أن دولتي المنبع (تركيا وايران) بعض السبب، لكنهما ليستا السبب كله، بل انهما وحين الاشارة اليهما، تردان ببعض الامور التي سببها العراق، اذ لا سياسة مائية واضحة في العراق، ومصير نسبة لا بأس بها من مياه دجلة تذهب إلى البحر، بينما مجرى النهر يعاني الإهمال جداً.. لو كان هناك كري مستمر لما شاهدنا هذه الجزر التي تكبر يوما بعد آخر، وفي حال استمرارها سيغلق مجرى النهر. وهذه الجزر ليست في بغداد وحدها، إنما على طول مجرى دجلة، لو كانت هناك غرامات مالية عالية ضد من يسيء إلى النهر، مثل أحواض الاسماك غير القانونية والتجاوز على الحصص المائية والمطاعم والمنشآت السياحية الخاصة، التي شيدت على الشاطيء والتي تستغل مياه النهر لامور عدة.. ثم هناك من يستغل أنابيب المياه المتوفرة في الحدائق العامة الصغيرة في غسل السيارات ويترك الحنفية مفتوحة بين سيارة واخرى، قطعا هؤلاء الاقل ضررا. في تقرير نشره موقع (الجزيرة نت) في شهر اذار الماضي، أكد عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب مثنى أمين فأكد أن المجلس لم يتطرق إلى الملف المائي ولم يفكر فيه مطلقا، معلقا «يبدو أن المجلس مشغول بقضايا أخرى، لذا لم تتضمن أجندته أي شيء يخص هذا الموضوع رغم المحاولات المتعددة لتضمينه». وللسنة الرابعة على التوالي يتم تقليص زراعة المساحات المخصصة للمحاصيل الصيفية، وهناك من يشير إلى أزمة في مياه الصالحة للاستخدام البشري ومن بينها مياه الشرب، بينما السياسة المائية لا تتغير، خاصة في اساليب الري وعدم بناء السدود. 

دائما هناك متسع من الوقت للبناء والاهتمام، لنستغل هذا الوقت لأجل دجلة، لأجلنا، لأجل بغدادنا التي ستفقد ميزتها مع فقدان دجلة فتصبح الحياة فيها وفي كل المدن التي يمر بها النهر مستحيلة. هل من مستمع؟ أتمنى أن أجد جواباً أو بعضه.