1- -
يُسارع البعض الى توجيه النقد المرّ للآخرين منطلقاً من انفعالات نفسية معيّنة بَدَلَ أنْ ينطلق مِنْ مبرراتٍ حقيقية لذلك النقد .
- 2 -
من هنا قيل :
{ رضا الناس غايةٌ لا تُدرك}
لا يكفون عن توجيه سهام النقد الموجع ، حتى اذا لم يكن العمل مشوبا بما ينخفض به الى الرخيص من الافعال
فلو زَوَّجَ أحدُ الآباء ابنتَهُ وهي في السادسة عشرة من عمرها ، قالوا :
زوّجَها وهي طفلة ..!!
حتى اذا اقترنت بشاب في مِثْلِ عمرها ..!!
ولو جاء العالم الكبير بنفسه الى مكتبةٍ تبيع الكتب ليقتني الكتاب الذي يريده ، انتقدوه ، وقالوا :
انّ أمثَالَهُ لا يَصِلون الى السوق ، وانما يبعثون ببعض خَدَمِهم ليجلبوا لهم ما يريدون من الكتب ..!!
مع أنَّ حضور العالم الكبير بنفسه الى المكتبة، لا ينطوي على شيء يتسم بالسلبية على الاطلاق ، لا بل ينطوي على الانفتاح والتواضع والابتعاد عن الفخفخة ...
وهكذا
- 3 -
وقد جاء في التاريخ ان (ابن العميد) – وهو الذي قال عنه الدكتور شوقي ضَيْف إنه (أول كاتب احتَكَمَ الى السجع في كتابته ، كما احتكم الى البديع من جناسٍ وطباقٍ وتصوير فأصبح النثر على يده بديعاً وتطريزاً وترصيعا وكان اسلوبه ثروة زخرفية هائلة .
وأكبر الظن ان ابن العميد قد تأثر في كتابته بصناعة السجّاد في اقليمه ، فهو يعاني في كل لفظة ما يعانيه صانِعُ السجّاد في كل خيط ، ثم هو بعد ذلك يُعنى بالوشي الذي تعبر عنه ألفاظُه كما يعنى صانع السجّاد بالوشي الذي تعبر عنه خيوطه ) .
كان ذات مرّة منح أحد الأدباء منحة مالية قدرها ألف دينار ، فأثار ذلك استياء (ابن مسكويه) فقال لابي حيان التوحيدي :
“ أما ترى الى خطأ صاحبنا في اعطائه فلانا الف دينار ضربة واحدة “ ؟
لقد استكثر على الرجل أنْ ينال هذه الجائزة ، واعتبر منحها اياه خطأ اجترحه (ابن العميد) مع انّ إكرامَ الاديب لا يصحّ أنْ يُعدّ من الاخطاء عند كل العقلاء ..!!
وهنا جاء الجواب من ابي حيان قوّيا شديدا ، قال له :
“ ايها الشيخ :
أسألك عن شيء واحد فاصدق فانه لامدبّ للكذب بيني وبينك .
لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء ،
وبأضعافه ،
وبأضعاف أضعافه ،
أكنت تتخيله في نفسك مخطئا ومبذرا ومفسداً أو جاهلاً بحق المال ؟
أو كنتَ تقول :
ما أحسَنَ ما فَعَلَ
وليتَه أربى عليه ؟ -اي زاد –
فان كان الذي تسمع على حقيقته ، فاعلم ان الذي يردُ ورد مقالك انما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه ،
وأنت تدعي الحكمة ،
وتتكلف في الاخلاق ،
وتزين الزائف ،
وتختار منها المختار ،
فافطن لأمرك على سرّكَ وشرّكَ }
ان الردّ كان مفحماً ، وكان في غاية الانصاف .
- 4 -
وما أكثر ما نسمع من الانتقادات الموجهة لهذا الفريق أو ذاك ولهذا القطب السياسي أو ذاك وهي مما لا يصح ان يكون مورداً للانتقاد ..!!
-كما كان المال في قضية ابن العميد - وقد يغمض المنتفع عينه عن هذا السلطوي أو ذاك وعن كثير من المؤاخذات الواردة عليه ، لانه وقع مصباً لاهتمامه وغايته وقد حقق له ما يريد ، فلم يعد ينظر اليه الاّ بعين الحب والتقدير والاحترام بل لا يريد أنْ يمسه أحد
بانتقاد .
وهكذا يتضح جلّيا ان البعد الذاتي لا الموضوعي هو الذي يكمن وراء سلسلة طويلة من الانتقادات التي توّجه آناء الليل وأطراف النهار للعديدمن الأشخاص والكيانات السياسية، ومتى كان النقد مشوباً بأغراض شخصية سقط عن كونه نقداً نزيهاً ، وبالتالي فهو لابُدَّ من ان يُلحق بالثرثرة التي ليس وراءها طائل ، وبالكلمات التي تُطلق للاساءة والتجريح وإلصاق القبيح ومن دون كناية أو تلويح ..!!