عن يوسف الصائغ ويومياته.. مكعب الالتباسات في الوثيقة غير المشذبة

ثقافة 2023/05/20
...

 علي وجيه

جدل جديد

مضى زمن طويل منذ أن كان صدور كتاب يثير الجدل، والأغرب أن يصدر كتاب الآن، أعني في زمن سريع مبتذل مليء بالزبد، فتمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي، وتحديداً من أدباء ومحققي وشعراء الصف الأول، بآراء متناقضة تجاه وثيقة جديدة صادمة، لرجل أثار الشغب والجدل والاختلاف منذ مراهقته الأولى، وحتى بعد وفاته قبل نحو عشرين عاماً، ولا يزال يثير هذا الجدل.

لقد كان الشاعر العراقي يوسف الصائغ مثار جدل سياسيّ وإنسانيّ، ثقافيّ وسلوكيّ، ولعلّه أكثر شاعر كان يُختلَفُ فيه، رغم عدم الاختلاف بموهبته، شاعراً ومسرحياً وروائياً ومقالياً ورسّاماً، لكنه ذلك "الابن الضال" للحزب الشيوعيّ العراقي، وهو ذلك "شيوعيّ القلب" من وجهة نظر حزب البعث ورؤوسه، والمسيحيّ الذي ترك ديانته وأسلم، والمسلم غير المتديّن والمسيحيّ السابق.

وبالنسبة لأديب كان الخوفُ والخيانة ثيمتين أساسيّتين في كلّ أعماله تقريباً، استخدمَ الجميع تجاهه أشدّ أنواع القسوة، لأنه لم يمارس الشيزوفرينيا الثقافية المعتادة، أعني الأديب الذي يمارس المثالب جميعها لكنه يكتبُ عكس ذلك، وليس كما فعل يوسف الذي يكاد أن نعرف عنه كل شيء، بمثالبه ومناقبه، ضعيفاً منكسراً، مبرّراً خذلانه لكلّ شيء تقريباً، بشكلٍ إبداعيّ غريب، وبـ "شذوذ لذيذ"، والتعبير له! 


اليوميَّات من الأدراج إلى السوق

صدرَ قبل فترة وجيزة، بجهدٍ واضحٍ للمحقّق والناقد د. قيس كاظم الجنابي، تحقيقه ليوميّات يوسف الصائغ، التي حملت عنوان "أبداً، ليس بالخبز وحده نحيا"، حيثُ امتدّت اليوميات على 540 صفحة من القطع الكبير، وصدر عن دار سطور البغداديّة بطباعة فاخرة.

ضمّت اليوميات، كما تبيّن مقدّمة الجنابي، دفاتر كُتبت منتصف السبعينات، وأخرى بداية الثمانينات، ورسالةً مطوّلة، ونصّاً شعرياً لم يُنشر سابقاً، ومسرحية لم تُنشر هي الأخرى.


فوات المحقق الجنائي!

ورغم الجهد الواضح للمحقق الجنابي، إلاّ أن العمل كان يشكو من عدّة ثغرات، لا تلغي اجتهاده بإخراج العمل، لكن العمل الثقافيّ المكتمل تماماً لم يُخلق بعد، وأننا ندورُ جميعاً في "فنّ الخطأ" بتعبير كيليطو.

لعلّ المشكلة الأساسية هو عدم اقتراب المحقق من أجواء يوسف الصائغ كما يجب، خصوصاً وأنه تعامل مع وثيقة شخصيّة، وليس مع مخطوط أكاديميّ، تراثيّ أو أدبيّ، إذ إنّ الأثر الشخصيّ يقتضي الاقتراب من صاحب الأثر، وبما أن الصائغ قد توفي فكان من المفترض من د. الجنابي التواصل مع المقرّبين منه، والدائرين بفلكه، لفتح مغاليق النصّ، ومعرفة أسماء الأعلام فيها، وشرح بعض الدوال المتعلقة بالشخوص.

الخلطُ الأول الذي يسترعي الانتباه هو ذكرُ شخصية باسم "عدنان"، وعدنان هذا هو "عدنان جالميران"، عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعيّ العراقي، وهو الذي نظّم يوسف في صفوف الحزب، وكان من الذين انهاروا بعد انقلاب 1963، وهو شخصية مركزية سياسياً في حياة يوسف الصائغ، وظلّت علاقتهما وطيدة حتى وفاة عدنان.

أما الخلط الأكبر هو عدم اتضاح الفرق بين ما يكتبُهُ يوسف عن زوجته المتوفاة "جولي" وعن حبيبته "إلهام"، وإن كان يوسف نفسه قد أسهم في هذا الخلط، حين وضعَ في "سيّدة التفاحات الأربع" نصوصاً برثاء إلهام بذات الأجواء الجنائزيّة التي رثى بها زوجته جولي. والمرأتان مختلفتان، لم تشتركا إلّا في حبّ يوسف، وبادلهما الحبّ بطريقتين مُختلفتين. 

هذا الخلط الأساسي يجعلُ التداخل بين اليوميّات مشوّشاً للقارئ، فضلاً عن الترجيح المستمر بذكر المبدعين من أصدقائه، فالاقتراب من "جوّ" يوسف الصائغ سيعرّفك ببساطة أنّ "إسماعيل" المذكور هو "إسماعيل فتاح الترك"، وليس "إسماعيل الشيخلي"، لأنّ الأول من أصدقائه المقرّبين، وكانا من جيل ثقافيّ واحد في التشكيل العراقيّ.

ولم يكتفِ د. الجنابي بالخلط وحده، لكنه استعارَ أيضاً ثياب المحقّق العدلي، وليس محقّق النصوص فقط، ليحكم أحكاماً خطيرة، مسيئة، دون بيّنة، ضدّ أديب اتُّهِمَ اتهامات كثيرة لكن ليس من بينها القتل! فيقول في المقدمة "في حادث وفاة (جولي)، أودع يوسف السجن، متهما من السلطات التركية، حتى حضر ذوو جولي وتنازلوا عنه، وأنا كمؤرخ ومراقب لا أستغربُ أن يكون يوسف متورطاً بحادثة موتها، وأنه تعمّد أن يكون الحادث خارج العراق لكي يبقى مُبهما، وكان هاجس الخيانة المماثلة لخيانتها حاضراً في أوهام أو حقيقة تفكير يوسف نفسه، فهو رجل مجنون والحب والمرأة يريدها أن تكون له وحده". أهـ.


الافتراء غير المسؤول

ولم يكن هذا الحكم القاسي وحيداً، فقد اتهم الجنابي التشكيليّ البارز ضياء العزاوي بأنه كان على علاقة بزوجة يوسف! استدلالاً لأنّ بطل الرواية المتعلقة بالخيانة كان اسمه "ضياء"، وعدم اقتراب الجنابي من أجواء يوسف أسقطه بهذا الخلل العملاق الذي أساء لشاعر، ولزوجة متوفاة، ولتشكيليّ بارز! 

يكتبُ يوسف في اليوميات (ص: 108) أن إسماعيل [فتاح الترك] عاد من لندن وجاء من هناك بعدة أشياء، من ضمنها بطاقة من ضياء العزاوي ورسالة، وصفَ البطاقة بأنها "وقحة" لأن "غلافها يمثل صورة جنسية مرسومة على هيئة ورقة دوب" [توت؟]، والرسالة كانت رسالة محبة، بلغة مكشوفة كما هي لغة الأصدقاء المقربين، وكان غضبه من إسماعيل وضياء لأن الأول لم يخبره بـ "وضعكِ"، يعني إلهام، حبيبته المغيّبة، ويقولُ في الورقة التالية "شتمتُ إسماعيل وضياء، ومرة أخرى قلتُ له: أنتما منذ مدة لا شيء، لا فن، لا مُعاناة، حتى كأصدقاء فقدتما الكثير". ويقول قبل ذلك (ص 94): "ترى هل عاد إسماعيل من سفرته؟ [...] ومن هناك قال إنه سيتوجه إلى لندن وسيلتقي بضياء، أردتُ أن أكتب رسالة مطولة إلى ضياء، ولم أستطع".

من الغريب أن ينشغل رجلٌ، يظنّ أن زوجته المتوفاة كانت تخونه مع صديقه، بفنّ هذا الرجل، وصداقته، وأنه كان يريد كتابة رسالة مطوّلة إلى ضياء! وليس ذلك فحسب، فيكتبُ يوسف في 27 أيلول من 1980 (ص 207): "أخبرني إسماعيل أن ضياء جاء يوم 23 أيلول للاشتراك بمعرض الملصقات، ولكنه سافر في اليوم التالي بسبب الحرب، حزنتُ لأنني لم ألتق بضياء".

كيف يمكن أن يحزنَ رجلٌ لأنه لم يلتقِ بصديقه الذي يفترض، بحسب الجنابي، أنه خانه مع زوجته؟ 

هل كان اسم بطل رواية، استدلالاً منطقياً؟ لو كان اسم البطل حينها "شاكر" هل كان المحقق ليتهم شاكر حسن آل سعيد مثلاً؟ إن كان اسمه "محمد" هل كان سيتهم "محمد مهر الدين"؟ 

لم تكن هذه الكارثة الكبرى الوحيدة، بسبب عدم معرفة الجنابي بأجواء يوسف، الكارثة الكبرى هو أن في حديث يوسف عن رواية "الخائنة" أو "القبيحة" المخطوطة، لم يذكر اسم البطل "ضياء" مع أيّة إشارة، لا اللقب، ولا كونه رساماً. وبينما يكتب الجنابي في المقدمة التي تتحدث عن نساء يوسف أن "جولي التي أهدى إليها رسالته للماجستير [...] وأنه أعطى رسائلها إلى ضياء (العزاوي) الذي يتهمه بأنه كان العشيق في روايته المخطوطة التي عنوانها الخائنة"، بينما يقول يوسف في اليوميات عن هذا الأمر، وهو يتحدث مع الحبيبة المُغيّبة [وليست جولي!] "اليوم أنهيتُ قراءة رسائلكِ، فهي الآن في الحقيبة [....] وتذكّرتُ أنني سلمتُ أكثر الرسائل إلى ضياء، لماذا فعلتُ ذلك؟" أهـ.

كلامُ حب، مع حبيبة، من حبيب يندمُ لأنه أعطى رسائلها لصديق، تتحول لقصة خيانة فذة بتأويلات د.الجنابي!

لو كان الجنابي قريباً من أجواء الصائغ، لعرفَ أنّه التقى ضياء العزّاوي منتصف الثمانينات، فهو قد سافر إلى أوروبا عاميْ 1985 وسفرة أخرى عام 1987، والتقى أصدقاءه جميعاً، وكانت هذه الصورة المرفقة مع المقال، من إرشيفي الخاص، بابتسامة عريضة بين صديقين قديمين، وليس بين زوج مخدوع وصديق خائن، حاشاهما من هذا الحكم السيء الذي لم يسقط به الجنابي إلّا لكون البطل ذا اسم يشبه اسم "ضياء العزاوي" الذي وضعه حظه السيء بمخطوط حققه الجنابي.

بمثل هذه الأحكام، تجوّل د. الجنابي بخصوصيات يوسف الصائغ، ويُطلقُ الأحكام يميناً ويساراً، ولا أعلم كيف يمكن ذلك بطريقة طبيعية، فنحنُ لا نتحدثُ عن أديب من العصر العباسي، وإنما عن أديب ما زالت أسرته وأصدقاؤه ومعارفه وأرملته وطليقته وابنته على قيد الحياة! 


ما كُلّ ما يوجدُ يُنشر

مع صدور أيّ كتاب، بعد وفاة أديب، لم ينشره في حياته، يُثار الجدل: هل من الممكن أن يُنشر الكتاب، أم تُحترم رغبة المؤلف؟ ولعلّ هذا السؤال واجه العراقيين حين طبعوا ديوان (قيثارة الريح) لبدر شاكر السياب عام 1971، وهي تضمّ نصوصاً صُنّفت أنها ركيكة، ومن البدايات، لم يحرص السيّاب على نشرها في حياته. وتكرّر الجدل عربياً بطباعة المجموعة الأخيرة غير المنشورة لمحمود درويش بعد وفاته "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، عام 2009، وضمّت المجموعة كسوراً في العَروض، لم يكن ليقع درويش فيها في بداياته، فكيف بآخر دواوينه؟

الأنكى من ذلك، أننا أمام يوميات شخصيّة، لم يرغب يوسف الصائغ بطباعتها، خصوصاً وأنه ظلّ حياً بعد آخر يوميات في الكتاب لنحو ربع قرن، كان يُمكنه أن يطبعها لو أراد، أو حتى لأودَعها لدى أحد أصدقائه أو مريديه، كما أودع مخطوطات أخرى سترى طريقها إلى النشر قريباً.

تلك الدفاتر بالغة السرّية، فيها التفكير بلا قيود، دون تفكيرٍ برقيب، وعند قراءتها تتجلى عمليّة التفريغ النفسي الذي عمل عليه الصائغ، كان يكتب ليشفى، من غياب جولي، وإلهام، والنكسات السياسية، وبداية الحرب العراقية – الإيرانية، فأجواء الاكتئاب، والمرض الصدريّ والسعال، وتناول الكحول بإفراط كان حاضراً، وهو كان يكتب ليتجاوز ذلك، لا أن يحاولَ نشرها أو توثيقها.

قد يكون السؤال: هل من المفترض أن تبقى الوثيقة شخصية؟ ليس بالضرورة، فهي وثيقة ثقافية أيضاً، لكن كان بالإمكان تشذيبها، وعدم الإشارة والمسّ لشخوص ما زال جلّهم أحياءً. وكثيراً ما يعمدُ محققون إلى تشذيب النصوص، وترك أسطر فارغة، فبالنهاية لا أحد يضع مخطوطاً كاملاً مع المتن المُحقَّق، وتقتضي المروءة عدم تجريح مجايليْ الصائغ، وأصدقائه، لدرجة نشر أسرار أسريَّة كتبها الصائغ في دفتره، لنفسه، وحده، وليس لقرّاء عديدين، وليس ذلك فحسب: بل إن هذه الأسرار ليست ذات أيّة قيمة ثقافية، أو سياسية، ففضحُ أحد أقاربه، الذي كان يصطحب حبيبته إلى بيت الصائغ، ليتلصّص الأخير عليهم من ثقب الباب، لا يضيف أيّ شيء للقارئ، والحمد لله أن الصائغ لم يعرف اسم حبيبة قريبه الثلاثيّ، وإلاّ لفُضحت على الملأ بعد تلك السنوات من المغامرات العاطفيَّة! 

تعرّض الصائغ لانتهاك صارخ في نشر هذه اليوميات بهذه الطريقة، فمهما كانت آراؤه ظالمة، جارحة، بحقّ المحيطين به، إلاّ أنه لم يصرّح بها، والدليل أنه حتى وفاته كان على صلة بمَن جرحهم بيومياته، وأغلبهم قام برثائه، واستذكاره سنوياً من السادة والسيّدات المحيطين به في حياته.

كلّنا نمتلكُ دفاتر سرِّية، هي أشبه بمستودع أسود، أو منطقة لا يشاركنا فيها رقيب أو قارئ، نقول فيها ما نشاء، لكنه ليس للنشر، بل هو أشبه بطريقة تفريغ للا وعي، وما تشكّله أعباء الآخرين علينا، ولعلّ الإقدام على نشر اليوميات بهذه الطريقة ستجعلُ كثيرين منا يتراجعون عن هذا الكابوس الغريب: أن تخرج أفكارك السرِّية إلى العلن! 

لم يُنتهك أديب عربيّ ربما مثل يوسف الصائغ، لم يبقَ سرّ في حياته لم تلكْهُ الألسنُ، و"الأمانة العلمية" يجب أن يُضحّى بها، خصوصاً وأن تلك اليوميات يمكن اعتبارها وثيقة إضافية، عدم وجودها لا يخلخلُ وجود يوسف الصائغ أو متنه العامر، فهي ليست ديواناً غير منشور، أو رواية مخطوطة، كان بالإمكان حذف 30 صفحة منها، جرّحت أسرته وأصدقاءه ومُجايليه رجالاً ونساءً، من دون أن يمسّ ذلك جهد المحقق الواضح في هذا الكتاب!