الجمال السياقي

ثقافة 2023/05/20
...

  كاظم لفته جبر 


يعبّر مفهوم الجمال عند الجرجاني عن الرضا والراحة عند مشاهدتنا له، وهو قيمة ترتبط بالغريزة والعاطفة. والبحث فيه قديم قُدم وجود الإنسان، فجميع الحضارات القديمة لها قيم جمالية خاصة بها، رسُمت من خلال الأسطورة واللغة الرمزية، والنحت، والموسيقى، والرقص، والحروب. ويعد الفيلسوف سقراط من أوائل الذين حاولوا وضع معيار موضوعي للجمال، إذ قال: كل شيء يؤدي غايته، أو وظيفته فهو جميل. أي حاول وضع عامل مشترك بين الأشياء الجميلة مهما اختلف متذوقيها. أما السفسطائيون، فهم يرون الجمال تجربة ذاتية نسبية بين الأفراد خاضعة لتفضيل كل متذوق وظروفه. وردَّ عليهم افلاطون في محاورته، بأن الجمال الحقيقي هو المثالي. أما أرسطو فوجد المعيار الجمالي في التناسق، والتناظر، والانسجام الذي يظهر على الموضوع الجمالي. 

وبعد تشعب التفكير الجمالي إلى مديات مختلفة على مر التاريخ الإنساني، ظهور الثورة الصناعية والاكتشافات العلمية وسيطرة سلطة العلم على سلطة الكنيسة، وظهور مدارك معرفية جديدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع.  أصبح الجمال لا يفهم إلا ضمن إطار، أو سياق نفسي، أو اجتماعي، أو ثقافي، أو ديني.

لذلك أصبح كل موضوع جمالي يتمُّ تذوقه نتيجة مؤثرات سوى كانت داخلية أو خارجية. لذلك أصبح الجمال مرتبطاً عند الأفراد بالسياق المناسب لظهوره، وكذلك الفنان يخضع أبداعه لنفس السياق والمؤثرات. 

وهذه المحددات التي يتحدد بها الموضوع الجمالي في القرن الثامن عشر سببه الفرق في التفكير بين اللاهوتي والعلمي، فالأول كان يبحث عن الجمال المطلق أو الثابت، أما الثاني فيرى أن الجمال نسبي، لأنه خاضع للشعور النفسي والمؤثر الاجتماعي والاقتصادي، والمقيد الديني والسياسي، لذلك كان سعي الإنسان لتذوق الجمال مرتبط بالحاجات، والرغبات الذاتية التي يسعى الفرد والجماعة لبلوغها.  

فمثلما الفنان يخضع في ابداعه لمؤثرات نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ودينية وتاريخية، كذلك المتذوق للجمال، يفضل موضوع جمالي على آخر، بسبب تلك المؤثرات الخارجية أو الداخلية، فكل موضوع جمالي مفضل لفرد ما، نتيجة ظرف أو حاجة أو رغبة. 

فالنظرية الجمالية قديماً تنظر إلى الجمال كمظهر من مظاهر الأسطورة والإلهام، أما في العصر الحديث وخصوصاً في القرن الثامن عشر مع تعريف (بومجارتن) بأنه علم المعرفة الحسية، وبزوغ الثورة الصناعية، أخذ المفكرون والفلاسفة ينظرون إلى الجمال إلى أنه ظاهرة تجريبية، يمكن دراستها من خلال العلم. 

فالإحساس والشعور الذاتي باللذة والألم، والجمال والقبيح، أصبح بالإمكان دراستها، ومعرفة أسبابها ونتائجها وتأثيراتها، بعد ظهور العلوم النفسية والاجتماعية مع فرويد، واوغست كونت. لذلك دراسة المؤثرات التي أدت إلى تفضيل الموضوع الجمالي مهمة لمعرفة اسباب التفضيل، وكذلك الاستفادة من معرفة الأسباب في معالجة المشكلات النفسية والاجتماعية للأفراد المصابون. لذلك تجد اهتماما وبروزا لفرع جديد في ذلك العصر سميَّ بعلم الجمال السيكولوجي.