شاعرُ الحبِّ والنضال الثوري والقصيدة المُهرَّبة

ثقافة 2023/05/20
...

  باقر صاحب 

ها هي الذكرى الأولى لرحيل الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب تحل علينا، وبرحيله خسرت الثقافة العراقية أحد أهم مبدعي العراق المعاصرين، فكان تشييعه إلى مثواه الأخير مهيباً، شارك فيه مسؤولون كبار في الحكومة وجمهرة غفيرة من مثقفي العراق ومحبي شعره. ذلك الشعر، الذي تناوب فيه على كتابة القصيدة الشعبية، فكان أحد أهم الشعراء الشعبيين وكتاب الأغنية، وكتابة الشعر الفصيح، شعر التفعيلة بالأخص.

سيرةُ حياةٍ حافلةٍ بالنضال 

في صفوف اليسار

وُلد النواب في مدينة الكاظمية ببغداد عام  1934، من أسرة أرستقراطية شغفت بالأدب والفن. تواءم بروز موهبته الشعرية في وقتٍ مبكرٍ مع عمله السياسي، فانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي، وهو ما زال في مقاعد الدراسة الجامعية. ومنذ ذلك الوقت ابتدأت رحلة ملاحقته واضطهاده، فعندما عُيّن مدرّساً بعد تخرجه في الجامعة، تمَّ طرده من سلك التدريس عام 1955، وعانى مع أسرته ظروفاً اقتصاديةً صعبة.  

وإذا كان قد تنفّس الصّعداء من الملاحقة والاضطهاد بضع سنوات، بعد ثورة 14 تموز، إذ أعيد تعيينه بوظيفة مفتشٍ تربوي، فإنَّ استقراره المعيشي كان وقتياً، إذ حدث انقلاب 8 شباط الأسود، الذي قام به القوميون، فاشتدت مطاردتهم واعتقالاتهم للشيوعيين. ومن بينهم النوّاب، فعزم النوّاب على الهرب إلى روسيا عبر إيران، لكن المخابرات الإيرانية آنذاك أمسكت به وأعادته إلى السلطات العراقية، التي زجَّت به في السجن، وحَكمتْ عليه بالإعدام، وخُفّف فيما بعد إلى السجن المؤبد، مما أتاح له الهرب من سجن الحلة، عبر حفر نفقٍ مع رفاقه من السجناء السياسيين، حادثة الهرب عبر نفقٍ آنذاك، كان لها صدىً كبيرٌ ليس في العراق فحسب، بل العالم العربي أيضاً، وسلّطت الأضواء على كاريزما النوّاب بوصفه مناضلاً صلباً وشاعراً مُجيداً. فعاش متخفياً في بغداد، ومن ثم في الجنوب، فظلَّ فترةً من الزمن، يسكن الأهوار مختلطاً مع البسطاء من الناس، إلى أن صدر عفوٌ عام عن المعارضين عام 1969، فعاد إلى سلك التدريس في بغداد.                       

ومنذ سبعينيات القرن الماضي، غادرَ العراق إلى المنافي العربية والأوروبية. كثرةٌ من المتناولين لسيرة النوّاب يرون أنَّ غربة النواب تعود إلى قصائده السياسية الهجائية للزعماء العرب آنذاك، حتى أنه يقال عنه إنه اعتاد على تنظيم أماسيه الشعرية غالباً في العواصم الغربية، خاصةً لندن، لأنّ الرقابة الصارمة لأنظمة الدول العربية آنذاك، لا تسمح لشاعرٍ جماهيريٍّ متمردٍ مثل النوّاب، أن يلقي قصائده في حواضر مدنها.  

                              

جوانبُ خفيّة 

يكشف الروائي السوري ابراهيم الجبين صديق النوّاب منذ عام 1989، عندما كان النوّاب يقيم في سوريا، جوانبَ خفيّةً في حياة النوّاب، في أثناء حديثه لموقع (الحرة) بعد الإعلان عن وفاته في 20 أيّار، العام الماضي،

يكشف بأنّ النوّاب هو أحد أبطال روايته (عين الشرق)، وفيها تسليطٌ واضحٌ على علاقة النوّاب بوالدته، يقول الجبين "إنّ والدة النواب كانت سيدة بغدادية "فريدة من نوعها" وكانت عازفة بيانو وهي من ربّته على تذوّق الفنون".

تأثرَ النوّاب كثيراً بوفاة والدته عام 2005، كما يذكر الجبين، إلى حد إصابته لاحقاً بالشلل الرعاشي، وكان من أسباب موته، أي أن النوّاب أصبحَ معتلّاً لمدة 17 عاماً لغاية موته عام 2022، وكان الحدث الصادم، بحسب الجبين، عندما اتّصل النوّاب وهو مقيمٌ في الخارج بمنزل أسرته في بغداد "أخبروه أن لا أحد في المنزل.. فسألهم أين ذهبوا، أجابوه.. أنّهم في طريقهم من المقبرة لأنهم كانوا يدفنون والدته".                

أضواءٌ على تجربته الشعريَّة

يمكن القول بأنّ هناك خصيصتين ميّزتا رحلة النوّاب الشعرية، كلُّ خصيصةٍ متوجةٌ بثنائيةٍ بارزة: الأولى تتعلقُ بالنّمطِ الشعري، فأجادَ، بالتزامن، القصيدة الشعبية العراقية، والشعر الفصيح، الثانية تتعلّق بالجانب المضموني لأشعاره، فكتب الهجاء السياسي بصورةٍ جريئةٍ وصادمة، مثلما كتبَ قصائد الغزل بكلِّ رقةٍ وعذوبة، على هذا فإنّ الهجاءَ الجارحَ يجسّد صور النضال الثوري ضدَّ كلِّ أشكال العبودية والاستغلال والقمع في أنحاء العالم العربي، وإلى ذلك فهو كان ملتزماً بقضايا العرب القومية ومنها قضية فلسطين، وفي أوضحَ تجسيدٍ لها قصيدتهُ الشهيرةُ الجريئةُ جداً (القدس عروس عروبتكم)، حتى أنه أطلق عليه بعد شيوع تلك القصيدة (الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي) ليضاف ذلك إلى الألقاب التي ذكرناها في عنوان مقالتنا هذه، ولأنّه كان يتمُّ تداول قصائده الهجائيةَ بسريّة كبيرةٍ بين الناس في مختلف أنحاء العالم العربي، أُطلق عليه لقب (شاعر القصيدة المهرّبة). كما أنَّ  تواتر موضوعات الغزل والهجاء في مسارات تجربته الشعرية، جعلته يُطلقُ عليه لقب (شاعر الحب والنضال الثوري).

هجاؤه الحادُّ ضدَّ الحكّام العرب آنذاك، والقمم العربية الدورية بأكثر من قصيدة منها قصيدة (قمم) جعلتهُ دائمَ التشرّد في أصقاع العالم المختلفة، فتنقل طائر المنافي بين "دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وسلطنة عُمان، وإريتريا وإيران وفيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وفنزويلا والبرازيل وتشيلي" 

ومع توطّنه في المنافي، تعرّضَ لمحاولة اغتيالٍ فاشلةٍ في اليونان عام 1981.   

وعن تجربة النوّاب في كتابة القصيدة الشعبية، يذكر الكاتب د. حسين الهنداوي في كتابه (مظفر النوّاب في أعالي الشجن) الصادر عن دار المدى عام 2022" هي لا تمثل امتداداً للشعر الشعبي المكتوب باللغة العامية الريفية لجنوب العراق أو وسطه برغم أنَّ مظفر النوّاب استفاد استفادةً قصوى من هذا الشعر وانتقى منه مئات المعاني الروحيّة والشعريّة، والتعبيرات والمفردات والحركات والصور والتشكيلات بمهارةٍ وشغفٍ مذهلين، مع بقائه بغداديَّ الروح والأسلوب والنزوات وبقاء شعره الشعبي شعراً مدينياً في الجوهر": الكتاب ص10. 

كان (للريل وحمد) ديوانه الأشهر في الشعر الشعبي، وحمل عنوان إحدى قصائده، وضمّ الديوان الذي كتبه بالفترة 1956 - 1958 أشهر الأغاني العراقية، مثل (البنفسج) و (الريل وحمد) اللتين غناهما المطرب ياس خضر.                        

في النمط  الفصيح يرى الهنداوي في كتابه المذكور أنَّ النواب منذ قصيدته "قراءة في دفتر المطر" كان بعيداً عن (الرومانسية الغنائية)، بل كان شعره الفصيح يتّسم "بعمق التزامه بمضامين سياسيةٍ وصوفيةٍ وإنسانيةٍ إلى جانب نزعته التجديدية والتحررية في إطار حركة الشعر العربي الحديث لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية" الكتاب ص11.

من أشهر قصائده، كما أجمع الكثيرون من المهتمين بشعر النواب" 

القدس عروس عروبتكم، وتريَات ليليَة، الرحلات القصيّة، المسلخ الدولي وباب الأبجديّة، بحّار البحّارين، قراءة في دفتر المطر، الاتّهام، بيانٌ سياسي، رسالة حربية عاشقة، اللون الرمادي، في الحانة القديمة، جسر المباهج القديمة، ندامى، اللون الرمادي، الريل وحمد، أفضحهم، زرازير البراري" وهي كما نستشفّ من عنواناتها تضمّ شعره الفصيح والشعبي.

كما أصدر النوّاب مجلداً لأعماله الشعرية الكاملة، عن دار قنبر - لندن عام 1996.  

        

قالوا عنهُ

نستذكر هنا بعضاً مما قيل عن النوّاب من كتّابٍ وشعراءَ وأكاديميينَ عراقيينَ وعرباً بعد رحيله العام الماضي، نقلاً عن صحيفة "القدس العربي" اللندنية، فقال وزير الثقافة والسياحة والآثار السابق والناقد والأكاديمي حسن ناظم "رحيله يمثّل خسارةً كبيرةً للأدب العراقي لما كان يمثّله كنموذجٍ للشاعرِ الملتزم، كما أنَّ قصائده رفدتِ المشهد الشعري العراقي بنتاجٍ زاخرٍ تميّزَ بالفرادةِ والعذوبة". الشاعر اللبناني الراحل  محمد علي شمس الدين كتب "خسارةُ صوتٍ شعريٍّ جارحٍ وجميل". الروائي العراقي المغترب محسن الرّملي قال "ماتَ بحسرةِ وطنٍ وأمة.. ونحن بمثل حسرتهِ سنموت، ماتَ الذي كان يجلدهم بصوته.. ونحن من بعده لهم لشاتمون. وداعاً أيها الكبير مظفر النوّاب. الروائية والمترجمة لطفية الدليمي قالت "أقرأ قصائد مظفر النوّاب الشعبية التي تحوّلت إلى أيقوناتٍ وجدانيةٍ لدى جيلنا والجيلِ اللاحق، فأنتشي طرباً لبلاغة التعبير وشعرية الصورة وغناها الحسّي والوجداني، وأبعادها الرمزية المتواشجة مع ذاكراتنا الجمعية".

الشاعر الفلسطيني راسم المدهون كتب" مشواره مع الشعر ظلَّ مترافقاً مع الثورة والغضب: مع ذلك لا يجوز لهذا أن يختصرَ حضوره الفني، إذ هو شاعر النسيج الدرامي للقصيدة، وشاعر الخطابة المسرحية التي تبرع في تشكيل المشهد ورسم صورة الحياة".