الكون في فنجان

ثقافة 2023/05/21
...

 حبيب السامر


لم ندرك سر تأجيل طباعة كتاب صديقنا الذي سلمه إلى المطبعة منذ وقت، وخلال حديثنا كان يوعز ذلك إلى أسباب عدة وظروف خارجة عن إرادته، طال الوقت وفي دواخلنا بَرقت أكثر من فكرة حول التأجيل، نعرف جيدا اهتماماته وحرصه على متابعة الصحف والمجلات، وما أن يفرغ من قراءة موادها، يشغله التركيز على صفحاتها الأخيرة التي تنتهي عادة بالمنوعات والكلمات المتقاطعة والأبراج،ويحسبها استراحة بعد سياحة منوعة في موضوعات شاملة.

  حين فتحنا عيوننا على تلك المطبوعات التي تصلنا بألوانها الجاذبة وإخراجها المميز في سني تطلعنا المبكر، نقلب صفحاتها ونبحر في مواضيعها المتعددة والمتنوعة، حتى نصل في نهاية المطاف إلى صفحات خفيفة على أرواحنا، تسحبنا بهدوء لقراءة أبراجنا، التي تتوزع بحكم الطبيعة إلى المائية والنارية والهوائية والترابية وربما هناك تسميات مضافة أخرى، وتعدت ذلك إلى الأبراج الصينية، وفي أحايين أخرى يتردد لقراءة الطالع من فنجانه، كان صديقنا يطيل التفكير ويلح عليه التساؤل المحير: لماذا يسعى المنجمون إلى قراءة مستقبلنا متوزعا بين الفرح والحزن والمشاريع الوهمية والحقيقية والحياة الخاصة، حتى وإن علمنا بمصداقيتها أو عدمها، مع مرور الوقت ترسّخت في ذهنه مفاهيم علم التنجيم التي تدعوه إلى قلق قراءة الطالع.

حضر صديقنا في دعوة خاصة، حيث تجلس الفنانة التشكيلية في جانب الصالة المزحومة بالمدعوين، والأنظار تتجه إليها فهي بارعة في قراءة الفنجان، كانت الشابة المبتسمة توزع القهوة على الحاضرين، لم ينتبه كثيرا إلى بعض الأصدقاء وقد قلب بعضهم فناجينهم، لم ينتبه حقا، لكن الفضول جعلنا نتابع حركة أحد الأصدقاء وقد أخذ فنجانه المقلوب إلى الفنانة الواعدة بهندامها الأنيق وناولها إيّاه، في البدء اعتذرت بهدوء، وهي تبث ابتسامة معهودة، بعدها قبلت الدعوة في القراءة السريعة لطالع الرجل الذي بدأ القلق يتسرّب إلى دواخله، وهو يتفحص وجوه الجالسين، تهامسا ببعض الكلمات وهو يؤكد صحة ما تقوله من خلال حركة رأسه بالإيجاب كررت القول: في فنجانك الكون متشابك، لا وجود لفراغ بين خطوطه، وتداخل سيلان القهوة على جدرانه وفي قعره، تناوب الأصدقاء والصديقات على سماع  طالعهم من خلال الحيرة المرسومة على وجوههم، أحيانا يتصنعون ابتسامة خافتة، حين تفصح القارئة عن عوالمهم تتسع الحياة وتضيق في عيون قلقة، وكأنها تلامس أحلامهم وتدرك مخيلتهم المعشبة لفك الالتباس في وعي اللحظة الصادمة لتكريس خفقة القلب لحظة الحديث عن حب جديد، أو صفقة مالية منتظرة، أو مشروع وهمي في طريقه نحوه، وما أتعس الجالس قبالة التشكيلية حين يسمع منها طريقك مسدود، وفي أحايين أخرى تجدها تصف الحياة وكأنها الربيع المستمر في فصول الجنة.

ساد الهدوء الصالة، دنوت من صديقنا، وبانت على ملامحه الحيرة والضجر، بادرته بالسؤال: هل أثرت قراءة الفنجان على مستقبلك؟ رد بابتسامة مخنوقة لا! كيف لا، وأنت تشابك أصابعك وتتأوه، دع الوساوس يا صديقي وانتبه لحياتك التي تصنعها بإرادتك، خذ نفسا عميقا، ولا تنظر في فنجان صغير فعوالمك كبيرة وواسعة ومنافذ الحياة كثيرة، همس في أذني، نعم لقد شرد ذهني خارج مساحة الصالة والآن عاد لي، فعلا حجم الفنجان لا يكفي لكل أشجار الحياة العاطرة، انسحب من الصالة بهدوء معلنا: ربما سأطبع الكتاب!