{الحنونة} وذاكرة الخبز

الصفحة الاخيرة 2023/05/21
...

محمد غازي الأخرس

ومما لا أنساه من الطفولة وقوفي قرب أمي وهي تخبز في تنورها خلف البيت، كنت أنتظر إكمال مهمتها المقدسة كي تصنع لي من فتات العجين المتبقي "حنونة"، و"الحنونة" هذه رغيف خبز صغير يلح الصغار على أمهاتهم لصنعه لهم، ويا حبذا لو كان بهيئة تختلف عن أقراص الخبز العادية. أما المفردة، الحنونة، فهي تصحيف عن كلمة "عنونة"، أو "زعنونة"، كما يلفظ الأطفال مفردة "زغيرونة". ما تفعله الأمهات مع "الحنونة" يستعاد فعله أثناء عمل "كليجة" العيد حيث يجلس الأطفال بانتظار أن تكمل الأم مهمتها، ثم تلتفت لهم وتصنع قطعاً مختلفة مما يتبقى من عجينها، وتأخذ القطعة أحياناً شكل دمية صغيرة أو وجه بشري أو غير ذلك. 

لكن، لماذا تذكرت هذا؟ تذكرته على هامش مراجعتي لبعض فصول كتاب (الغصن الذهبي) لجيمس فريزر. فبحسب هذا الباحث، ثمة طقوس تخص الحنطة والخبز كان يمارسها القدامى، ومنهم الرافدينيون. ومرد هذه الطقوس إيمانهم بأن للنبتة روحاً، وأنهم حين يحصدون سنابل القمح ويهرسونها إنما يقتلون الإله الماكث في تلك النبتة. وتكفيراً عن هذا الذنب، واسترضاءً لآلهة النبات التي قتلوها، يقدمون الأضاحي، صانعين وليمة قربانية "تؤكل بطريقة طقوسية"، في آخر يوم من موسم الحصاد. قد تكون الوليمة هريسة من الحبوب المحصودة، تخلط مع لحم الضحية المخصصة للحصاد، أو قد تكون خبزاً مقدساً يوزع ليؤكل كنذر أو ما شابه، مثلما نفعل مع طقس توزيع "خبز العباس" مثلاً. 

بخصوص الخبز، يورد فريزر أنه في السويد قديماً، تصنع زوجة المزارع رغيفاً مقدساً من حبوب القبضة الأخيرة، ثم تعجنه على هيئة فتاة، وتخبزه وتقدمه للأسرة. ويجري هذا في اسكتلندا أيضاً، حيث يصنعون من الرغيف الأخير نحتاً لأمرأة يسمونها "السيدة"، ثم يتقاسمونه. أما في لاباليس بفرنسا، فيصنعون نحتاً لرجل من الخبز المحلى، ويعلقونه على شجرة التنوب، ثم تحمل الشجرة بعربة الحصاد الأخيرة، وقد علق بها رجل الخبز. يتركون العربة في منزل العمدة، وهناك تظل حتى نهاية قطاف العنب، وهو موعد الاحتفال بنهاية الحصاد بأن يقطع العمدة خبزة الرجل المحلاة ويوزعها قطعاً بين الناس. هل تنتمي فكرة العشاء الأخير في المسيحية إلى هذه الأصول؟ نعم، فالسيد المسيح في العشاء الأخير "أخذ خبزاً وبارك وكسر وأعطى التلاميذ"، وهو قريب مما يفعله المزارعون في آخر أيام حصاد القمح. 

هل ذهبت بعيداً في التأويل؟ كلا، ففكرة صنع "حنونة" من بقايا عجين الأمهات، تماثل صنع الأرغفة المقدسة من آخر قبضة من السنابل المحصودة.

 وفكرة نحت دمى صغيرة مما يفضل من عجين "الكليجة"، تقارب ما يفعله المزارعون في أوروبا حين يصنعون نحتاً لـ "سيدة"، أو تمثالاً لرجل من الخبز المحلى.

لا تعجبوا، فحياتنا كلها تمتلئ بمثل هذه الرواسب المتبقية من طقوس أجدادنا. لقد وصلت مثل صدى ضاع عن أصوله، وللقمح خزين لا ينفد من الأصداء الممتعة، فانتظرونا.