التشكيليَّة السوريَّة فاطمة أسبر: اللوحة القصيدة

ثقافة 2023/05/22
...

 رولا حسن


تنتمي فاطمة أسبر إلى قرية قصابين في ريف اللاذقية الساحلية، وهي ابنة أسرة متشبّعة بالثقافة، فهي شقيقة الشاعر السوري أدونيس، تحمل دكتوراه في نقد الشعر لكن عشق اللون جعلها تترك بحور الشعر وقصائده، وتركض باتجاهه في رحلة عبر الذات ومكنوناتها مكتشفة إيَّاها عبر خطاب جمالي مغاير، حيث تجتهد في بناء حكاياتها داخل اللوحة في كثافة أقرب إلى الأحاسيس المموسقة منها إلى تراكمات قصصيَّة، كثافة أقرب إلى البدايات البكر الطازجة التي تشي بعذوبة الأشياء، وبساطتها، ورقتها، وصدقها.

تقول أسبر إنَّ حبَّ الرسم وهي ولدا معاً كتوأم حقيقي، كل ما تذكره من تلك الطفولة البعيدة أنّها كانت ترسم على كل ورقة تراها وفي كل الأوقات المتاحة في المدرسة، وحين أنهت عملها في تدريس اللغة العربية كان أول ما تحرّك داخلها هو تلك الرغبة الدفينة والجارفة في العودة إلى الرسم، ولا سيما أنّها قامت في مراحل التدريس بدور تعليمي للشعر أساسه التحليل والنقد والبحث، لكنها وجدت نفسها في اللوحة وبين تلك الألوان التي تتداخل وتعكس عوالم مختلفة، «وجدت نفسي في الرسم بشكل أفضل، ذلك أن النقد يعتمد على المادة للدخول فيها بينما في الرسم نحن نقدم المادة بعد تكوينها حسب رؤيتنا» والكلام يعود لها.

في لوحات أسبر مؤثرات كثيرة تستمدها من الثقافة المتراكمة بدءا من المخزون البصري والسمعي، الذي يبدأ بحسب تعبيرها مع بداية الوعي الطفولي، إلى الوعي المكتسب عن طريق القراءة وأحداث الحياة، وباعتقادها أن الوعي المكتسب عن طريق القراءة وأحداث الحياة يلعب دورا مهما في تشكيل مخزون في اللاوعي وتضيف أن الشعر يضاهي ما تفعله الموسيقى، تلك اللغة التي تحاور الروح وتفجر مكنوناتها، فضلاً عن الطبيعة بمكوناتها المختلفة وكائناتها اللا متناهية».

تعرف أسبر جيدا أن اللون هو مفتاح اللوحة، لذا تعرف كيف تكون كريمة حدَّ البذخ في اللون على امتداد مساحة اللوحة التي تعبر بشكل من الأشكال عن الحياة ذاتها، وتعرف أيضا متى تقتصد في اللون لدرجة أن ألوانها تبدو أحيانا جارحة حدَّ الألم والتعب، ألوان تتلمس المدفون فينا والنائم والمخفي والمسكوت عنه وكأنها تريد أن تؤكد على مدلولات الأشياء وليس على الأشياء بحد ذاتها بحسب تعبيرها، فهي كما تؤكد دائما «أنا لا أميل إلى ازدحام اللوحة بالألوان لأترك للون الواحد حضوره القوي والعميق»، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفنانة حاولت عبر اختيارها لألوان لوحاتها، وأحادية اللون وتدرجاته في اللوحة أن تغير مدلولات اللون المتعارف عليها فاللون الأحمر الذي يرمز كما هو شائع إلى العنف والحرب والدمار والدم فهو لديها لون الضوء، ومن ثم لون الحياة، لأنَّه «بمعانيه المتفرّعة والمتشعّبة يبقى له إشعاع الضوء مع عمق التأثير؛ لذا هي ترجو من خلال هذا التعامل مع معاني عناصر العمل الفني أن تصل إلى وعي المتلقي وتلامس عوالمه الداخليَّة»، بحسب تعبيرها.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ قلة الألوان في لوحات أسبر هو أحد ميزات تجربتها الفنيَّة، فدائما هناك لونٌ أساس واحد وتدرجاته التي تبدون وكأنّها ظلال فلا تميل كفنانة إلى ألوان كثيرة في اللوحة «لا أميل إلى اللوحة المزدحمة الألوان، أحب أن تكون الألوان قليلة ومعدودة بحيث يأخذ اللون حقه كاملا على مساحة اللوحة وقدرته الكاملة على الحوار مع المشاهد».

إذ تعتقد أن حوار الألوان على اللوحة يشبه حوار مجموعة أشخاص على مائدة، كلما كان العدد كبيرا قلَّ استماع الأشخاص لبعضهم.  ومن هنا يكتسب اللون في لوحتها قوته ويصبح قادرا على التأثير على بصر المشاهد أولاً وعلى لا وعيه ثانياً عندما يحرك النائم داخلة والمكبوت ويخرجه إلى الضوء.تزدحم لوحات أسبر بالنساء لكنهن نساء مختلفات تمتد أقدامهن في عمق الأرض ويشمخن عالياً باتجاه السماء، ملامحهُنَّ غير واضحة وكأنّها تريد أن تقول إنَّ المرأة هي جوهر الحياة فهي شامخة وتشبه الأشجار في امتدادها باتجاه الأرض في دورة العطاء والحب.

تؤكد أسبر في أكثر من حوار أن الفن بكل أشكاله، الشعر، أو الرواية، الفن التشكيلي على اختلاف مسار له لم يستطع أن يشكل خلاصا فرديا للإنسان ولا سيما خلال الحروب والأزمات الإنسانية المعاصرة وليس خلاصا بالمعنى الحقيقي للكلمة. فهي تعتقد «أن الفن أو الإبداع على اختلاف أنواعه قد يزيد مساحة الوعي، ويساعد على فهم الواقع، ولكنها لا تعتقد أنه يمنح خلاصا فرديا أو جماعيا، فالفنان والكلام لها «هو أكثر التصاقا بأبناء بيئته ووطنه، وهناك أعمال كثيرة تصور هول الحروب وقسوة الطغاة وبشاعة الدمار لكن مع ذلك لم تتوقف الحروب، ولم تتغير طبائع الطغاة ولم تنتهِ أزمات الإنسان المعاصر المختلفة، وطريق الخلاص مختلف تماما».

خلال الفترة الأخيرة ولا سيما خلال سنوات الحرب العشرة ارتبطت لوحة أسبر بنصوص شعريّة كثيرة كانت أغلبها لشاعرات شابات وجدن في لوحاتها ما يكمل نصهن الشعري ويقول ما لا تستطيع القصيدة قولها أو كانت اللوحة برأي العديدات منهن ظلا للقصيدة أو وجها آخر لها أو بعبارة أخرى نصاً موازياً للنص الأصلي نصاً يقوله اللون على طريقته.

أقامت فاطمة أسبر العديد من المعارض الفنيَّة بشكل منفرد وشاركت بالكثير من المعارض المشتركة وتركت بصمة مميزة بلوحتها المشحونة بالمشاعر واللون الباذخ على خارطة الفن التشكيلي السوري. 

فقد رسمت خطها المتباين الذي يعكس رؤيتها الخاصة فنزوعها نحو الغرائبيَّة في الطرح كإضافة لازمة لمشهدها يمنحه ذلك التماسك الذي ينشده وكأنّها بذلك تسهم في بلورة منطلقات أساسية لوعي جديد وفي التمهيد لتعبير يرتكز على الوعي كما يؤكد الكثير من النقاد.