القتال بأسلحة قديمة

ثقافة 2023/05/22
...

  ياسين طه حافظ

هكذا، لا تطور من دون ربح، ولا ربح لا يستدعي ربحاً، ولا «ربحاً» لا يستوجب قوة تحميه وعلى من يعيش الحياة، ويرى أن يطمئن لهذا المسير ولهذه النتائج وليرضَ بالحقائق على الأرض إن شاء يظل عاقلا ومحتفظاً بسلامة عقله وعيشه. ستقول ما هذا الاستفزاز لمستقراتنا ولماذا المشاكسة في العرض والكلام؟ أقول: هي هكذا تطبيقات الأفكار العلميَّة، يكون المشروع أكثر نجاحاً، إذا أدى إلى ربح وربح عاجل مباشر.

فالنسيج الميكانيكي، وبعد ترك النول، وقبله تنحية المغزل، هذا النسج الميكانيكي بدأ أولاً في نسج الأشرطة ثم تطور وأُدخل في نسج القماش.

كما أنَّ الإفادة من قوة البخار بدأت في نافورات الحدائق ثم في مضخات المناجم وفي الأخير كانت عظمة استعماله والإفادة المهمة منه في الآلات الميكانيكية المحرّكة، وإذا نحن أمام القاطرة البخاريَّة. 

فكما هو تطور آلي، ميكانيكي، هو تطور أرباح أيضاً أو تطور أرباح أدى إلى تطورات..

أهم ما في التطبيق العملي للافكار العلمية يتضح في الصناعات. 

إنه تطور لا تدنو منه المثاليَّة والأحلام والتأمّلات الحكيمة. 

إنّه تطور يتم في تمام اليقظة. 

وتمام إدراك الحاجة وتمام الفهم لكل خطوة ولكل حركة يد وكل إضافة.. هنا العالم يعاد صنعه ويعمل العلم على تغييره.

وهنا إقصاء لمسائل أخرى يحتاج لها الإنسان، في وجه آخر من أوجه الحياة والعالم. 

فلا ذكر للضمير، لابتهاج الروح، لنعومة وجمال الحلم. هذه تأتي من فرص مواتية بعد الاستراحة والفرح بالنتائج الملموسة والنصر. 

وقد لا تواتي فرصة لذلك، حين تحول ساعات السكينة بين التطورات فسَحَ انتظار وجهد لكي لا تتأخر النتائج أكثر. هذه فترات أو أزمنة قلق. 

واحدة منها تلك التي نعرفها، فبعد الانتباه للقوة الكهربائية مضت عشر سنوات ليتم التطبيق العملي لها في توليد التيار الكهربائي. 

ولم يبدأ استعمال التيار في الإضاءة إلا بعد عقود ولم توجد محطة كهربائية إلا بعد اختراع المصباح الكهربائي المتوهّج.. هكذا تخبرنا تواريخ العلوم.

أردت أن أقول: إذا كان الفعل وربحه والتطبيق الآلي وربحه وكل اختراع وصناعة بإتيان بربح وهذا الربح يطور اختراعاً وصناعة فأين نضع المنطق الأخلاقي وأين نضع حضور وتنامي القيم، وأين موقع تفكيرنا الآخر، المختلف، بل المناهض أحياناً لذلك التفكير وللفعل الدينامي المادي الملموس وهو الذي يغير مظاهر حياتنا وأساليب ومتطلبات عيشنا ورفاهنا وسلامتنا بعض من مفرداته؟، وإذا علمنا أن الربح الأكبر يتحقق بالتسويق الأكبر، وأن اكتمال الربح بشمولنا بالتسويق والاسهام في تحريك ما ينتج، هل نستطيع بعد إلا أن نكون بعض هذا الواقع؟ 

وهل يمكن أن نعيش إذا رفضناه ولذنا بأخلاقيات وقيم ومعانٍ تهبنا رضاً وسكينة في هذا المعمعان المستمر والذي لا يبدو سينقطع من غير أن تنقطع الحياة قبله؟

يبدو أنَّ الإنسان الحديث أدرك أي محنة هائلة وصعبة هو فيها، ولكنه مثل من يتناسى أو يتشاغل عنها والزمن يستمر، فلا يدري أحد أين ستكون محطة البشر الأخيرة؟ 

وإذا أدركنا سرّية العلوم والمختبرات والبحوث العلميّة، فهل لنا بعد أن نرتجي حلّاً إلا من العلم نفسه ومن الصناعة العلميّة نفسها، وما علينا إلا أن نكون في واقع هو يرسمه وهو يغير فيه وهو يطوره وربما يمحقه. 

ومثلما أي صدفة قد ترينا حلاً فأي صدفة قد تطفيء كل شيء. وحتى الآن نحن بلا رأي بلا فعل، بلا حل. 

لسنا في مرحلة الرضا بالتهويم او بغوامض الكلام. نحن في زمن العلوم والتجارب، زمن التطبيق والصناعات التجاريّة والأسواق. 

فعلينا الإقرار بأن الحياة اليوميّة محكومة بالتصنيع الجديد وبتطور المصنوع وتحديثاته. 

والنتائج العملية للاختراعات، لتطورات ما سبق أن كانت هذه غريبة يوم استُحدثت فقد صارت لها ولتطورها وتوسعها صلات مباشرة بالخبز اليومي والتدفئة والإضاءة والتغذية والعلاج والعمليات الجراحيّة. 

نقلة كبيرة من العالم القديم إلى عالم العلوم والصناعة، صناعة الأسلحة وصناعة الأدوية والصناعات الغذائية وصناعة الأطراف وصناعة وسائط النقل و... صناعة الكتاب وعدسات العيون وسماعات الاذان وبطاريات للقلوب.

يحملها المريض داخل جسده ويحضر حفلاً ويناقش، ويتسلق سلماً أو يرقص.

مذاق جديد للحياة، فلا بدَّ والحال هذه من توافر رؤية جديدة للحياة، إحساس جديد بها وفهم! وهنا نحتاج إلى قدرة ومرونة نستطيع بهما الانسجام والحركة مع الجديد.

ما استغربه، هو أنَّ السياسة ما تزال تعتمد احتياجات ومزاج الحياة التي مضت، لا تزال غير كاملة الانتقال إلى حياة العلوم والحياة الصناعيّة. 

هي في الوقت الذي تحرض من أجل الحاجات المادية والضرورات الجديدة، تعتمد الحوافز العاطفيّة والإثارة في الخطاب وفي الممارسة. 

ولعل في أرقام المبالغ التي تصرف على الدعاية والإعلان والتفنن العاطفي بها إشارة لمدى الحاجة لحوافز وعناصر الحياة قبل العلمية الصناعية. 

إنه الخطاب المخادع كما خلّفناه وراءنا وإثارة ما سبق أن كان مهماً. 

كما أننا ما نزال نوظف الخطاب القديم في الاحتجاجات والمطالبات برفع الاجور مثلاً. نحن نستثير ونحرض ونثير عواطف الكراهة والضد لنعرقل العمل و»نوقف الارباح» حتى يستجاب لنا. 

الحياة ليست علمية صناعية صرفاً ولا مادية صرفاً. 

ما يزال لما خلفته الصناعة وراءها وما تركه العلم، حضورٌ تفاجئنا نتائجه حين الوقوف بوجه الجديد المسيطر. لا أدري هل هي سخرية أم بعض الحكمة، إذ نستعين بالقديم حينما نريد أن نأخذ حصة أكثر من جديدالعالم؟.