أصالة الوجود

ثقافة 2023/05/22
...

 عبد الغفار العطوي 

  هذه المقالة قائمة أصلا على فكرة غريبة قليلا، في وجه المقارنة بين فلسفة هيدجر (1889 - 1976) الوجودية أو هي  في مجملها تنتهي دوماً بالعدميَّة المتشائمة التي تمتلك الإنسان في القرن العشرين الأكثر رواجاً في ما يتعلق بالتأكيد على دراسة الظاهريات المتعالية، وميزت هيدجر من كونه كان يناصر النظام الألماني النازي أو على الأقل المقرب منه وحظي بامتيازاته التي لا يحصل عليها سوى القلائل من المحظوظين، حتى أصبحت الصلة بينهما مثار جدل ابتداء من مدرسة فرانكفورت من انقسام فلاسفتها بعد عودتهم من اميركا المنفى الاختياري لهم اثناء الحرب العالمية الثانية. 

 وبين فيلسوف في القرن السابع هجري (ما يوازي القرن الثاني عشر ميلادي) ألا وهو شيخ الإشراقيين المقتول الشيخ السهروردي شهاب الدين (549 - 587) المشتهر بكتابه (حكمة الإشراق) و (التلويحات) في العصر الإسلامي العباسي وقد نجد مبرراتها حاضرة، ليس في فلسفة هيدجر فحسب، إنما في تبنياته الحياتية التي لا تفرض نوعاً من الالتزام في الوعي الفلسفي كيف يعيش؟

كيف ينام؟

هكذا وبين الفيلسوف الاشراقي الذي مثلت فلسفته الوجوديّة (المتعلقة بدراسة عامة للوجود التي لها عدة تسميات أخرى، الفلسفة الأولى الفلسفة العليا، العلم الأعلى، العلم الكلي الإلهيات)، وجريمة مقتله أو استشهاده من قبل السلطة الحاكمة آنذاك 

(الدولة الأيوبيَّة في حلب المتشددة من ناحية كراهية فقهائها للفلسفة) المدرسة السهرورديَّة هي من بين المدارس في العصر الإسلامي، وأقربها إلى النزعة الإفلاطونية التي التزمت الفلسفة الغربية في تاريخها الطويل باقتفاء أثر خطاها في الاهتمام بالانطولوجيا، والمدارس الخمسة هي المدرسة المشائيّة، والمدرسة الكلاميّة، والمدرسة العرفانيّة، والمدرسة الاشراقيّة، ومدرسة الحكمة المتعالية). 

ويتفق الباحثون على أن المشترك بين هذه المدارس الفلسفيّة الخمس أنَّ حُجيَّة الدليل العقلي في مقام إثبات حقائق الوجود للآخرين، وهو ما سارت عليه فلسفة هيدجر في تعميق الانطولوجية الفينومينولوجية التي استمد هيدجر أساسياتها من فلسفة هوسرل الظاهراتية في وعيها العقلي البين ذاتي، لكن هذه المدارس اختلفت بتعدد الرؤى في نظرتها المعرفيّة الكونيّة من كونها تعددت في كيفية تحصيل المعرفة بمنهجية مختلفة نجد تفاصيلها في كتب تلك المدارس، ولعل القرب الحادث بين أطروحاتها المعرفيّة (خاصة في  المدرسة الإشراقيّة) هو في الجذر الفلسفي الإفلاطوني الجامع بين استخدام الدليل العقلي والكشف المتعالي، ذلك الجذر الذي رسّخ الوعي الإفلاطوني في تاريخ الفلسفة كلها، في ما يتعلق بمبحث الوجود، لدرجة أن ثورة ديكارت ضد الوجود لم تتعد حدود الكوجيتو، فكان فضل هذه المدارس الإسلاميّة في دراستها المعرفيّة، في خوضها غمار التعدد المعرفي.

وتعتبر المدرسة الإشراقيّة في الفلسفة الإسلامية من أقدر المدارس المعرفيّة التي طرحت في دهشة منقطعة النظير للباحثين فكرة المزاوجة بين العقل و الكشف في ما يتعلق بمبحث الوجود، وتمثلت عبقريتها بمساهمة شيخ الاشراق السهروردي، فرغم صغر سنه ونهايته المروعة والمأساوية، إلا أنه أثار الإعجاب في ما كتبه في مؤلفاته، وما لعبه في حياته (التقرب من  السلطة) وتدل كلمة (الإشراق) إلى معنى انبثاق النور المميزة لفهم أساسيات المدرسة الإشراقيّة واستقصاء جذورها الفلسفية اليونانية، وعرف السهروردي نقطة فهم تلك أي في سلوكك طريق لدرك العلوم الإلهية والمعارف الحقيقية، إنما يكمن بتهذيب النفس والمقاومة على الأمور، وهي تقترب قليلاً من فكرة هيدجر في مقارباته في علاقة الزمان بالوجود في ما الذي يعطينا الحافز لنعرف (الزمان والوجود) مع بعضهما البعض (في الشيء الذي يخص التفكير ص7) لأن مغزى ما طرحه السهروردي قبل قرون، طرحه هيدجر ببضعة كلمات، مع مراعاة الفارق بين العصرين والعقليتين، وإن كان قربهما من السلطة قد وضعهما في دائرة الشبهات، إلا أن المغزى هو عملية التفكر الأولى في الوجود العام التي ما زالت تعطي تاريخ الفلسفة نقطة نظام في أن حصر المبادئ الأولى في التفكير هو ضابط منهجي دوماً، الذي يركز على حقل الانطولوجيا بواسطة معرفة التفاوت بالأدلة القائمة على وعي الوجود بمساهمة اللغة التي استغلها كلاهما.

اهتمام هيدجر بكينونة اللغة في نقل لغة الكائن، عندما أيقن في الواقع أن قدرة اللغة (واللغة الألمانية بالذات) في الأداء الوظيفي، فهو يصفها لغة الكينونة بامتياز، في استخدامه لها بما تمتلك بتوظيف مكامن القوة والقدرة فيها، بينما مضى السهروردي في كتابه (حكمة الإشراق) في ما يقوله قطب الدين الشيرازي شارح الكتاب أن أغلب ما جيء بهذا الكتاب هم من أرباب الحكمة الذوقية، مثلما وصف كتاب (حكمة الإشراق) صدر الدين الشيرازي بأنه قرة عيون اصحاب المعارف والأذواق، وهذا يعكس أن السهروردي الذي استخدم اللغة بالمعطى الذوقي في البيان، صحيح لم يضاهِ هيدجر، بيد أنه بزَّ فلاسفة عصره في إيصال فلسفته إلى مصاف المباحث الإلهيَّة، لذا هو أثار حفيظة فقهاء عصره وتفوق عليهم، فقتلوه بهدم داره عليه، بينما قتل هيدجر رمزيّاً في تجنب أغلب فلاسفة عصره من الألمان (كارل ياسبرس) والأوروبيين من الاختلاط معه، وقراءة فلسفته التي ازدحمت بشيء من الغموض والصعوبة والعدمية، ولعل العاملين اللذين جمع بينهما هو أن فكرة الاقتراب من السلطة تكلف الفلسفة الخسارة المحتملة بسبب اختلاف خطابيهما وتعارض غاياتهما من الأساس، بينما ما عرف عن الفلسفة الإسلاميّة آنذاك، أنّها كانت وفيَّة لأغلب مباحث فلسفة إفلاطون.

وإن تميزت بالمنحى الميتافيزيقي، وطرحت مباحث أخرى مغايرة مثل أيهما أسبق أصالة  الوجود أم أصالة الماهية؟، لكن يمكننا التحدث عن موضوعة الوجود باعتباره العلم الكلي عند الفلسفة الإسلامية في معظمها، والفلسفة الوجودية (وفلسفة هيدجر الوجودية بالذات) في أخصيتها نلحظ الشبه في مفهوم أن أعلى الأنطولوجيات هي الكينونة، أم الظواهر عند هيدجر والوصف الغامض لله عند السهروردي الذي اعترض عليه كل فقهاء الإسلام، وأثار حفيظتهم، وعجل بسقوط الفلسفة المدوي، ووصم اقطاب الفلسفة الإسلامية بأنّهم أعاجم، ملاحدة وشعوبيون من قبل أعدائهم من الفقهاء والأصوليين، كما تعرضت فلسفة هيدجر كونها تتصف بالعدميَّة والمغالاة في الإلحاد.