في رحيل آخر المغايرين

ثقافة 2023/05/23
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب


ايقظ ذلك الشاب الصاخب العائد من بغداد الى مدينته الناصرية في عطلته الصيفية جمرة المسرح والفن وجذوته في نفوس ابناء مدينته كعزيز عبد الصاحب وعبد الرحمن مجيد الربيعي ووجدي العاني ومهدي السماوي وغيرهم راويا لهم بشغف ما رآه في العاصمة واضواءها وما حصل عليه من علوم المسرح وفنونه في معهد الفنون الجميلة ليقعى الجميع ذاهلين مبهورين لما يرويه ذلك الفتى سامق القامة اسمر المحيا سريع الحركة ليلفهم بمعطفه المسرحي مقدما عروضا مسرحية في مدينته الضاجة بالحيوية والجدل والحياة التي طالما احبها ووجد فيها بغيته الاولى من ممثلين وعاشقين للشعر والمسرح والادب وجاءت عروضه آنذاك في نهاية الخمسينيات غالبا متأثرة بفواعل اساتذته في المعهد كحقي الشبلي وابراهيم جلال وجعفر السعدي وجاسم العبودي والمدهش فيها تلك المدنية واليسارية ضاربة الجذور في ذهن محسن العزاوي فهو يقدم اخته الفاضلة السيدة فوزية في عروضه المسرحية كأول ممثلة في مدينة الناصرية مثلت معه على خشبة المسرح في اكثر من عرض مسرحي.. ظل هوس المسرح يجول في وجدانه وخافقه حتى انه لم يطق البقاء في مدينته الجنوبية فسافر عجلا في بعثة الى جيكوسلوفاكيا لاكمال دراسته العليا في السينوغرافيا والاخراج المسرحي حاله حال من يوفدون تلك الفترة الى اوروبا الشرقية فعاد الينا بزاد ومعرفة مسرحية قل نظيرها فهو عندما عاد لم يذهب للنص العالمي انما اخذ يرسخ مؤلفا محليا فالراحل محسن العزاوي ليس طارئا في تبنيه لنصوص عراقية فيها ملامح درامية مع ادراكه لضعف البعض منها وقصورها لانه يعتقد اعتقادا جازما ان نهضة المسرح العراقي مرتبطة بقيام النص العراقي ودعمه واسناده فأعمال مثل طنطل والكورة لـ (طه سالم) ونشيد الارض لـ (بدري حسون فريد) والغزاة لـ (علي الشوك) والسور لـ (عبد الله حسن) وتجارب بيت المسرح العمالي لم يتم اختيارها من قبله اعتباطا انما كانت وعيا مبكرا وادراكا منه لتطوير عجلة المسرح العراقي من خلال التأليف المحلي، حقيقة قدم محسن العزاوي تنويعا انتقائيا فريدا لم يسبقه اليه احد من مخرجينا فهو تارة يقدم المسرحية الاحتفالية الغنائية الملحمية كما في مسرحية (نديمكم هذا المساء) لـ (عادل كاظم) مقدما سيرة الممثل الشعبي الساخر (جعفر لقلق زاده) وتارة اخرى يعالج اخراجيا ويتقارب مع الدراما البوليسية النادرة فيخرج نص (المصيدة) لـ (اجاثا كريستي) ويذوب في تلاوين المسرحية الشعبية مبينا مميزات اللهجة المحلية وفتنتها والصراع الطبقي بين شخوصها فيخرج مسرحيتي (حرم صاحب المعالي ) و(راس الشليلة) لـ (يوسف العاني) في نقد لاذع للسلطة ومؤسساتها المرتشية، ويعود فيقدم عرضا احتفاليا فرجويا صاخبا فيه استعراض لوني وسينوغرافي عجيب في مسرحية (حب ومرح وشباب) ولم يغب عن ذهنه تقديم المسرحية السياسية فقدم مسرحية (البديل) تأليف (يوسف الصائغ) عن القضية الفلسطينية واشكالياتها، وانفتح على التراث العربي الاسلامي من خلال ما كتبه الراحل (قاسم محمد) فاخرج مسرحية (مجالس التراث) وقدمت في المغرب وتونس وتركت اثرا بالغا في ضمير ووجدان الجمهور العربي وشكل مع  قاسم محمد ثنائيا مسرحيا في مسرحيات (اسواق واشواق) و(الحريق) المتناصة مع مسرحية الملك لير، وفي موجة خطاب تأصيل المسرح العربي والدعوة اليها في السبعينيات اخرج للمسرح مسرحية (باب الفتوح) للكاتب المصري (محمود دياب) الذي شاهد العرض على خشبة المسرح القومي في بغداد حيث صرح قائلا إن إخراج العزاوي لباب الفتوح هو أكثر ديناميكية ورؤية معاصرة من جميع من أخرجوها من مصريين وسوريين)، وهي شهادة بالغة القيمة من لدن كاتب عربي كبير ومجدد اثر في النسق الدرامي العربي، وأخرج العزاوي مسرحية (الغزاة) لـ (علي الشوك) وهي المسرحية الوحيدة التي كتبها الشوك بعيدا عن شواغله الانثروبولوجية والاجتماعية وتعالج موضوعة غزو التتار لبغداد ومقاومة أهلها ونقبائها لهم، ومن التصورات والابتكارات التجديديّة المعاصرة التي قدمها العزاوي في ما يخص السينوغرافيا والمنظر المسرحي ما قدمه في المسرحية الشعبية (نشيد الأرض) حين أدخل (الشاريو) تلك التقنية السينمائية المعروفة ووظفها في عرضه المسرحي محركا عليها القطع الديكورية مما أعطى حيوية وتوليدا دلاليا لها مؤسسا لعلاقة تواصليّة جديدة مع المتلقي، ومن المكتبة المسرحية العالمية اختار العزاوي مسرحية (الشجرة المقدسة) للكاتب الاسباني (فرناندو ارابال) ليخرجها وهي من نصوص تيار العبث واللامعقول المسرحي تحكي قصصا من الحرب الأهلية الاسبانية بشكل غروتسكي ساخر أسقطها العزاوي على وضعنا الخارج توّاً من الحرب انذاك، ولم يقتصر الابداع الفني للراحل العزاوي على الفعل الاخراجي بل كان ممثلا ساحرا لا يشق له غبار حاصدا الجوائز والشهادات العديدة في تفرده الادائي وصدقه الفني التمثيلي فكان ممثلا متوهجا لافتا خصوصا في عروض (البيك والسايق) لابراهيم جلال و(حكايات الارض والعطش والجوع والناس) لـ (قاسم محمد) والتي حاز عنها جائزة المركز العراقي للمسرح لافضل ممثل عام 1982، وله مشاركات خاصة في الدراما التلفزيونية منذ مستهل عقد السبعينيات وابدع في مسلسلات (جرف الملح) و (الدواسر) و (فتاة في العشرين) وشكل أداؤه لشخصية (خليل) في المسلسل الشهير (النسر وعيون المدينة) علامة فارقة في تشخيص الشخصيات المسكوت عنها والمضمرة والقلقة في المجتمع العراقي، ولا يمكن نكران الجهد الفائق في إدارته للفرقة القومية للتمثيل في سنين عديدة وانتاجه لمواسم مسرحية زاخرة بالعروض المتنوعة والمعاصرة حيث كان ينتقي ويكلف المخرجين المحترفين والنابهين ويستضيفهم ليقدموا عروضهم على خشبة المسرح القومي وكان صاحب دعوة تقديم الفرقة القومية لعروضها في المحافظات ضمن جولات مسرحية طويلة الأمد ليتعرف أبناء وطننا على آخر العروض الحديثة بهدف المتعة والتنوير الفكري والثقافي، وكتب العزاوي مذكراته ويومياته وطبعتها دار الشؤون الثقافية العامة وجاءت بأسلوب سلس ورشيق تحكي قصة ستين عاما من نضال العزاوي في المسرح وتثبيت أركانه في بلادنا، الرحمة والخلود والذكر الطيب لأبي سنان أحد كبار سدنة مسرحنا وتاريخنا الثقافي والصبر والسلوان لذويه ومحبيه.