التمرّد يبتدع مُصطلحات الموت

ثقافة 2023/05/23
...

  ملاك أشرف 

 

أرادَ النّاقد الفرنسيّ الدلاليّ رولان بارت قتل المُؤلّف مجازيًّا من أجلِ إخلاء المكان للقارئ النّاقد أو القارئ النقديّ، الّذي يستطيع من بنية النصّ الهائلة وعلاقاتِها الكامنة مع بعضها بعضًا أن يصلَ إلى نتائجَ تُرضي النّاقد نفسه والأغلبية من العامّةِ، ورغم أني رفضتُ فكرة البنيويّة وقلتُ إنّها مُعادلةٌ رياضيّة شرسة لا تصلح للنصوص الأدبيَّة ولا يجب أن نسلطها على الأعمال الأدبيَّة ونتعامل بِها مع نتاجٍ عاطفيّ، يُبنى أكثره على الشّعور، حيث يتطلّب النصّ الواحد منهجًا مُختلفًا عن النصّ اللّاحق لِتكتملَ الصورة المُرادة والمُتقنة عندَ الدّارس لكنني أقرّ بقدرتِها البارعة أحيانًا في الوصولِ إلى مستويات معاني النصّ الحقيقيّة المُؤثرة وكيفية تكوينها، وسبب ظهورها بتلكَ الهيئة من خلالِ انفصاله التامّ عن صاحبه ومن دون العودة إلى حياةِ كاتبه، تاريخه وظروفه الاجتماعيّة والبيئيّة آنذاك. فإن البنيويّ الجسور كرولان بارت يحصل من أنساق النصّ ومدلولاته فقط على ما يريد تحديدًا وقد نجحت البنيويّة إلى حدٍّ معقولٍ في تطبيق رؤيتها الخاصّة ومُصطلحها موت المُؤلّف الشّائك، المُحتشد بالتّساؤلات عن الأصالة والّذي يزيح الموقع المُحوريّ للشخصيّة الكاتبة، كما نجحت إلى حدٍّ مُدهشٍ في تحقيق وجود اللُّغة والنّظام غير المُتشبث برؤيةٍ مُبسطة سطحيّة.

عملَ موت المُؤلّف الأدبيّ على نشر نزعة التمرّد كي يمهدَ الطّريق أمامَ انتشار التّأويلات بعدَ تحرير القارئ من المؤلّف وروح النّقد المُثقفة، الباحثة عن الجودة المُرتبطة بمُنتجِها؛ لذا النّاقد البريطانيّ رونان ماكدونالد لَمْ يقف عاجزًا، وذهبَ ليفكر برجّةٍ ذهنية للقارئ والوسط الأدبيّ جديدة، يُزعزع آراء الكُتَّاب والنقّاد ويُخلخل ثوابتهم ونظرياتهم المُتّبعة، في وقت هُناك من يعدّها سخافةً إضافية للمفاهيم السّابقة المُشتقة من معجم الموت المُغري والعبثيّ حتمًا.راحَ ماكدونالد بتفاصيلهِ إلى أبعد من كوّنهِ مُجرّد ناقد نخبويّ، يكتبُ نقدًا ويسير على خطى الآخرين من نقّاد عصره أو نقّاد الحقب الغابرة، ولا جرأةَ لي على تسمية ما قالهُ بالفظاظة أو الغرابة غير الدّقيقة الّتي تثير اهتمامه؛ لأنّه لا يبدو لي مُبررًا بما فيهِ الكفاية ما تحدّث بهِ وليسَ صائبًا إذا نظرنا لهُ من النّواحي كافّةً، إلّا أنّهُ يحمل من الصّحةِ ما يبعد القارئ عن مُفردات الذّم والضدّية كُلّيًا، مكتفيًا بالكلام عن الدّواعي الّتي تبعث بهِ إلى تأييدهِ أو رفضهِ جزئيًّا..

نُلخص وجهة نظر ماكدونالد في مُصطلحٍ نقديّ صادم هو(مات النّاقد) أو(موت النّاقد) بالمعنى المجازيّ، مُصطلحٌ يعلن رحيل النّاقد الأكاديميّ المُتخصّص واستدعاء النّاقد غير المُتخصّص ليحلَّ محلّه بكُلِّ صلافةٍ وتبجّحٍ، هُنا يطرح السّؤال نفسه: في ظلِّ المواقع والمُدوّنات وتزاحم الكُتَّاب، وفي ضوء تطور وسائل الاتّصال والمُغردين في الصّحف والمجلّات هُنا وهُناك ممّن بلا ثقافاتٍ مُختلفة عميقة أو مُطالعات دَؤوبة ثريّة، كيف يعوّل المرء بشكلٍ شاملٍ على آراء وتحليلات انطباعيّة ظاهريّة ويترك تحليلات جدّية منهجيّة حتّى يحتفي بموتِها؟ أيضًا لماذا سرعان ما تتشكل أحكام مغلوطة وأفكار مُسبقة عن الاختصاصات وعن أصحابِها الدّارسين في الأكاديميّة؟!

قد يظنُّ بعض القُرّاء والأُدباء أن التّدوينات النقدّية الصّادرة عن غير المُختص لن تحلَّ محلّ النّقد المُتخصّص على الإطلاق، ويبقى هذا افتراضًا أجوفَ فها هي حلّت وجرفت الكثير من الحاذقين ووضعتهم على هامشِ النّقد نوعًا ما، هذهِ حقيقة أفضت- طبعًا- إلى الجزم بتلاشي المُؤسّسة النقديّة الأكاديميّة وحلول الكتابات الاعتياديّة السّريعة ذات التّعليقات الجاهزة غير السّديدة ولا القويّة بدلًا منها.يعللون تراجع الأقلام الأكاديميّة وضعفها وبزوغ الأقلام العابرة السّاطعة وهميًّا الّتي تعتمد على الذّائع لا المعرفة الغزيرة؛ بمللهم من الأكاديميين الّذينَ يرشدون ويدلّون على ما يستحقّ القراءة وما لا يستحقّ، ويرونها تطلق الأحكام ووجهات النّظر وكأنَّها هي الأصوب، لا جدال حولها وهي الفصل، تنهي النّقاشات والحوارات حولها أيّ تضع حدًّا للتّشكيك المُرتاب في أساسها ومصدرِها.

أنا مع هذهِ الأسباب وجزء لا يكون قليلًا منّا رُبَّما واجه أكاديميين مُصطنعين يردّدون الكلمات الآتية بعجرفةٍ: (يجب، تجنب، افعل، لازم، لا بُدَّ وإلى آخره..) حيث تغدو شخصيّاتهم مُستفّزة إجباريّة وقاتلة لإبداع المرء الفرديّ وحُرّيته الفكريّة، قراراته المُلائمة لطبيعتهِ التّكوينيّة ورغباته المُستندة إلى تركيبتهِ الذّاتيّة، إن لمحنا أكاديميًا لا يشمله هذا التّفصيل في المقالةِ الآن ندخل في صدمةٍ مُؤطّرة بالفرحة الطّفيفة وحالة من الفُجائيّة تجاهه لكن بالفعل توجد استثناءات مُتمرّدة وأعمالها الإبداعيّة ذات قيمة في السّلك الأكاديميّ، لا تمارس السّلطة أبدًا ورغم ندرتها تشكّل وجودًا مُميزًا ووهجًا بارزًا في الواقع الثّقافيّ، لا نستطيع إنكاره وتكذيبه أو تقلّيص دائرته، حيث إن قلّة الشّيء تُحرّك بصيرتنا الحادّة نحوَ وجود الشّيء.

انعطافي إلى ضفّة الأسباب المطروحة لا يعني انعطافي إلى جهةٍ تطفِئ الأنوار على الأكاديميّ وتغيبه ثُمَّ تشعل الأضواء الذّهبيّة فوقَ الكتابات النّقديّة الاعتباطيّة، العابرة والمُتزايدة بشكلٍ مُثيرٍ للريبة، الّتي غايتها التّمتع بالشّهرة اللّامعة وحسب، هذهِ الفوضى النقديّة الأخيرة لا علاقةَ لي بِها وازدريها لا شكّ كما استهجن أفعال الأكاديميّ ولُغته غير المفهومة ونصائحه المفروضة بناءً على تجاربهِ الشخصيّة- فغالبًا ما يحقق وجوده ومعناه الأكاديميّ بوساطتِها-عندَ المُقابل الحُرّ التّلقائيّ والمُختلف من زوايا عدّة عنهُ، هكذا أسلوب أكاديميّ مُضطرب يخلو من السّلامة في وقتٍ أصبحَ مُتطورًا تطورًا رهيبًا كُنّا نأمّل أنّهُ قد ولّى ومرّ!

ينبغي للناقد وعلى وجهِ الخصوص الأكاديميّ أن يتبنى طريقةَ (التّعليق الحكيم الحصيف) عندَ قراءةِ العمل والاستغناء عن التّعليق المُتذمّر المُنتقص والهدّام الحاقد أو البعيد عن اهتمامات جمهرة القُرّاء وما يتعلق بالحقل الثقافيّ، ومن المُفترض هي ذاتها الطّريقة التّوجيهيّة المُتّبعة من غير الأكاديميّ المُتحمس إلّا أنه تمسَّكَ بالقشور والنقد الحدّسي أو الانطباعيّ السّريع اليوم وتخلى عن هذهِ الطّريقة الرّشيدة، المعنية بالذّوق المُهذب، حسن التّمييز والفطنة، الهادفة إلى تثقيف وتنمية المُجتمع بضراوة.إذن على هذا النحو أكون قد انتهيت إلى نقدٍ يُخلص الأفراد من الأعمال المُنغمسة في عاديتِها، تفاهتِها وعيوبها، إذ يُحرر روح الأدب الحقّة من خلالِ تنظيمه الدّقيق ونظرياته المُحكمة المُتماسكة! لا بُدَّ أن نضعَ حدًّا للجوّ المعرفيّ المنهجيّ غير المُريح والفضاء الوهميّ الرثّ بما أن النّقد النّقد التّنويريّ) ترياقٌ يُعالج سمّ الأفكار إن جاز التّعبير، فهو نقدٌ ينبع من جدارةٍ فنية لا يركن إلى صومعتهِ أو يخرج جريًّا مع التّيار المُخرّب، يثبت أهميتهُ عندما يؤكد أهمية الآداب والفنون مُسبقًا إلى جوار حماية قداستها وجوانبها الأكثر بلاغةً ورهافة منذُ البداية.

يعمل مُصطلح موت المُؤلّف والمُصطلحات الأخرى المتصلة بهِ على الغرق في ملذات التّفسير(متع التّأويل)، لكن يظهر أنها ساعدت على التّخلص من النّاقد وغيره وبعبارةٍ أقرب ساعدت على التملّص والتّخلص منهُ بوصفهِ مثقفًا عامًا وقاضيًا يحدّد الجودة ويقود الجمهور إلى المعنى ومستوياته كما يوضح لنا ماكدونالد الشّأن بمُراوغةٍ، عندما اِرتَكنَ إلى نظريات رولان بارت ونسجَ مُتحايلًا على غرارِها مُصطلحًا رمزيًّا لا يتعارض معها، بل يتقابل ويسحب التخويل الوصفيّ من النّاقد لئلّا ينشرَ شرحه وذوقه في الميدان الأدبيّ، خوفًا من تضييق حياة القارئ أو الاستهانة باللُّغة واسترسالها المفتوح مثلما يزعم.

على ما يبدو أن النقد الأدبيّ تحديدًا لَمْ يعدْ وصفًا، شرحًا وتقويمًا فقط برأيي، إنّما التّحليل النصّي نفسه اتّسعت آفاقه في اتّجاهات جمّة مُتنوعة اليوم واقْتَضى الدّخول إلى أعماقِها من دون تَهاوُنٍ، وقد أشارَ قلّة من النقّاد إلى هذهِ الرّؤية المُتفحّصة للحركة النقديّة بعيدًا عن النقد الناقص أو المعنى الناقص، منهم: جيرار جينيت الغربيّ وخالدة سعيد أحد أقطاب النّقد العربيّ. 

سيظلّ الرّقص على القبور ما دام الأكاديميون جامدين خامدين، مُتشبّثين بعاداتهم لا يتغيرون وعالم الاتّصال عبرَ لوحة المفاتيح(الكيبورد) لا يكف عن بوحهِ الفارغ المُتَدَنٍّ، غير الواعي والسّام في أحيانٍ عديدة، يعدّ الـ(goodreads) أو (Facebook) مثالًا بسيطًا عن النّقد الضجيجيّ الانفلاتيّ وساحاته المُشرعة لكُلِّ مَن هبَّ ودبَّ، فهو مسوغٌ مُباشرٌ لاجتياح الموت الدّائم لمُعجمنِا

الاصطلاحيّ!