خطاب الحداثة

ثقافة 2023/05/23
...

   د. كريم شغيدل

خطاب الحداثة هو أول محاولة عراقية لتأصيل المفاهيم الثقافية ومناقشتها وربطها بواقعنا الثقافي، ابتداء من إرهاصات التجليات الأولى للحداثة، فقد استهل بمناقشة التمايز والتمييز بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وناقش مديات التداخل بين المفاهيم والحقول والآليات، معتمداً على العديد من المصادر التي عنيت بالنقد الثقافي والدراسات الثقافية، وهو أول كتاب يتجرأ على كشف عيوب الخطاب في تجربة رواد ما سمي بالقصيدة الحرة- وعندنا تحفظ على التسمية- ونعني(نازك والسياب والبياتي والحيدري).

إذ توسعت مختلف الدراسات بالإحاطة بالتجربة من مختلف المناحي الجمالية والأسلوبية والبلاغية، لكنها لم تدرس ثقافياً، على أن الأدب الرفيع لا يصلح أن يكون مادة للنقد الثقافي، إلا إذا شكل واقعة ثقافية، وقد وجدت في تجربة الرواد واقعة ثقافية ذات صلة بسيرورة المجتمع، لقد ولدت التجربة في ظل سياق ثقافي تأسيسي، بملامح حداثية، بدءاً من تأسيس الدولة العراقية بمرتكزات مفهوم الدولة التي أنتجتها الحداثة بوصفها مفهوماً فلسفياً يعني التمركز العقلي، فالتجربة إذاً هي من تجليات الحداثة، وإن كانت غالبية توظيفاتها الفنية والدلالية تنتمي إلى ما بعد الحداثة، إذ لا يمكن للشعر بمحمولاته العاطفية وتوظيفاته الأسطورية والواقعية والشعبوية أن يكون على صلة بالمفهوم الفلسفي للحداثة، لكن فرضية وضع تجربة الرواد في سياقها الثقافي المدني والمديني الذي ينشد الحرية والتحرر، يدفعنا إلى فحص الأنساق المضمرة التي تمثلتها التجربة من دون إدراك الشاعر والمتلقي، فإذا بها أنساق بدوية لم تخرج عن أنساق القصيدة العمودية التي تعد خطاباً لترسيخ هيمنة السلطة وأيدلوجيتها ومهيمناتها، فالعنف وتضخم الأنا وإقصاء الآخر والتعصب الأيدلوجي بدلاً عن القبلي جميعها أنساق من رواسب البداوة، يفترض أن يطالها التحول في تجربة تعد نفسها 

حداثية.

في القسم الأول تناولت الدراسة كما أسلفت مفاهيم النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وكانت أشبه بالتمهيد لفصول الكتاب التي اشتغلت على إطارين نظريين هما الإطار الثقافي وإطار الحداثة، فالدراسات الثقافية ليست مجرد مصطلح جديد، فقد نشر مركز الدراسات الثقافية المعاصرة بجامعة برمنغهام في العام 1971 صحيفة أوراق عمل في الدراسات الثقافية تناولت وسائل الإعلام والثقافة الشعبية والثقافات الدنيا والمسائل الأيديولوجية والأدب وعلم العلامات والمسائل المرتبطة بالجنوسة والحركات الاجتماعية والحياة اليومية وموضوعات عديدة متنوعة. 

إلا أنَّ تلك الصحيفة لم تواصل نهجها، لكن كان لها الفضل في تقديم مصطلح المظلة (Umbrella term)، الذي يغطي مختلف المدارس التي تعمل اليوم بما اصطلح عليه(النقد الثقافي)، ويمكن أن نشير إلى العمود الفقري للدراسات، كالتاريخانية أو الماركسية الجديدة والنقد النسوي، ودراسات الجنوسة والذكورة والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، ودراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات الاستشراق، وقد عالجت الدراسات الثقافية مختلف القضايا.

   كما تناول الإطار الثقافي أربع قضايا مفاهيمية وإشكالية في أربعة فصول هي: مفهوم الثقافة، وكان أشبه بالرحلة بين مختلف المصادر لمراجعة ومناقشة تعريفات الثقافة، إذ لا يمكن الارتكان إلى تعريف محدد من مجموعة تعريفات بلغت نحو 160 تعريفا، ولا يمكننا أن نحدد كم من هذه التعريفات ينسجم مع تصورات المثقف العربي لفكرة الثقافة التي أسهم مشروع الحداثة باختزالها وتكريس نخبويتها، بل قصرها أحياناً، بنرجسية متعالية على الشاعر(الرائي)، حتى ترسّخ تدريجياً ما يمكن أن نسمّيه المفهوم النصوصي للثقافة.

ثم انتقلنا للبحث في إشكالية العلاقة بين الثقافة والدين والحضارة، ذلك أنَّ واحداً من مآزق الحداثة العربية هو إحداث قطيعة فكرية، بدلاً من الحوار مع المؤسسة الدينية ومن ثمَّ خلق قطيعة سياسية اجتماعية (تنظيمية) مع المؤسسة التي يمكنها أن تفعّل دور المجتمع وتحشد الجموع للقيام بالثورة، وبتنحية قوة المؤسسة الدينية وعزلها سياسياً برزت المؤسسة العسكرية كقوة وحيدة في ظل ضعف القوى الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي جعل حركات التحرر العربي والحداثة بمنظورها العلماني مرتبطة بظاهرة الضباط الأحرار الذين حولوا البلدان إلى معسكرات وساحات حرب واختزلوا الثقافة إلى(عقائد لفظية) وإنشاء رومانسي، ومن ثمَّ طي سجل الإصلاح والنهضة والتحرر الحقيقي، وتحشيد قوى المجتمع البشرية والاقتصادية والثقافية في مشاريع وهمية قادت إلى الهزيمة، ما أسهم بتضخيم عقدة الشرق والغرب، وساعد على تكريس مركزية الغرب وتفوقه على هامشية الشرق وضعفه.

وكان لزاماً علينا أن نبحث أيضاً إشكالية المثقف والسلطة، فإذا كانت ثمة إشكاليات أو أسئلة محفزة للبحث، يمكن الوقوف عندها في مجال التنافذ بين الثقافة والسياسة بوصفها خطابات متوازية أو ممتزجة أو متقاطعة فهي إشكاليات وأسئلة العلاقة دائمة التوتر بين المثقف والسلطة، فغالباً ما تكون هذه العلاقة محفوفة بالمخاطر، لا سيما أنَّ المثقف يجد نفسه دائماً في علاقة توتر مزمنة مع السلطة.

وجاء الفصل الأخير بعنوان نحو نظرية ثقافية، وهو استقراء لمجمل الخريطة العالمية في مجال نظرية الثقافة ومحاولة لوضع أسس أولية لنظرية ثقافية عربية.

أما إطار الحداثة فقد تناول مفهوم الحداثة، ومسارات النهضة العربية ومرجعياتها، ثم حركة الشعر، وإشكاليات الحداثة والتجديد، وقد كان هذا الإطار النظري الشامل هو الجزء الأول من الكتاب، أما الجزء الثاني فكان تطبيقياً إجرائياً على نصوص الحداثة، ونعني بها تجارب الشعراء الرواد الأربعة(نازك والسياب والبياتي والحيدري)، وقد جاء بأربعة فصول أيضاً هيي: توظيفات الخطاب السمعي، والأنساق المكانية للنص، والأطر الثقافية للأسطورة والرمز والقناع، ثم عيوب الخطاب، وهذا هو الفصل الأخير الذي مثل قلب الكتاب- كما يقال- إذ كشفنا من خلاله عن الأنساق المضمرة التي تكتنف الخطاب من دون أن يدرك الشاعر ذلك، وهي أنساق مؤسساتية متوارثة، كرستها السلطة بمفهومها الاستبدادي الأوسع (النظام والدين والتاريخ والموروث والمجتمع)، وهي من رواسب البداوة، كالعنف والقسوة والأنا الفحولية والذكورية وإقصاء الآخر المختلف والتعصب وغيرها، مع اختلافات بينية في الوقوع تحت طائلة تلك الأنساق، فقد كانت تجربة بلند الحيدري أكثر رؤيوية وتمثلاً للتحول النسقي، بينما استنزف الخطاب السياسي المباشر تجربة نازك الملائكة، وقد ناقش الكتاب قضايا حيوية مختلفة.

خطاب الحداثة/ دراسة ثقافية لمشروع الحداثة الشعرية في العراق صدر بجزأين عن دار خطوط وظلال/ 2023.