كتاب الجمر والرعب

ثقافة 2023/05/24
...

 جمال العتّابي



 لا تقتصر الكتابة عن شارع المتنبي على الكتاب وشأنه، بل تمتد إلى أبعد من ذلك، نحو أيام الدراسة في كليَّة التربية، كنا نقطع شوطاً من المسافات مشياً من الكليَّة تغوينا رائحة “قوزي الشام” تسحبنا طوعاً نحو مطعم (تاجران) الذي يحتل الركن الأيمن من مدخل شارع المتنبي المطلّ على شارع الرشيد، نقصده في أول الشهر بعد تسلم مخصصات القسم الداخلي، ثم نُكمل المشتهى في مطعم “كباب الإخلاص”.

 في “المتنبي” تبدأ رحلة البحث عن الكتاب، وهي رحلة ممتعة، متعة الكتاب ومتعة اللقاء بالناس الذين يقرؤون، هذه الرحلة كانت كفيلة بأن تدبَّ فينا حياة ما، لا ندري كنهها الحقيقي، لأننا لم نجرّب غيرها، ولم تنقطع على مرِّ الأزمان.

 في أعوام التسعينات صار شكل الحياة جحيماً، والوطن جرّة للرماد، كنا نلحس الأصابع مثل الجراء، بعد حرب دامية لثماني سنوات، كان الشباب ينامون على الشوك، لم يشهدوا في الحرب وطناً غارقاً بالأسى، جموعاً تهاجر بلا عود، إلى بلدان الجوار يفترشون قمامة الأرصفة الباردة، يصرخ الجوع في أكباد الأطفال، ويدقّ مساميره في أجساد الأمهات، كل ثاكلة فقدت أحد أبنائها تقول: ليتها لم تلد في الزمان الذي يستبيحه الطغاة، يخرسون الحناجر بالنزوات القاتلة، ما من مغيث لصرخات الأمهات سوى الموت، يجثم فوق صدور الأجنّة يسرق أعمارهم، كنا مضطربين يتقاسمنا العوز مجهدين، ليس أمامنا من سبيل بلا طيف حلم نعيش.

 العلاقة بشارع المتنبي أخذت منحًى آخر في تلك الأعوام، حين داهمتنا ألوان شتى من الحصارات التي تلبستنا وأخذتنا من هويتنا إلى هاويتنا، لم نجد سبيلاً للعيش سوى ذلك الملاذ الذي يبعد سوى خطوات عن مقهى الشابندر، غرفة صغيرة تطلّ على الشارع في مبنى قديم تعود ملكيته لعائلة “الملّي” البغداديَّة، في مساحة لا تتجاوز خمسة أمتار مربعة، عدنا فيها من جديد لممارسة مهنة التكسب بوسيلة متواضعة، كنا قد غادرناها منذ نهاية السبعينيات، نجرّب مهاراتنا في الخطّ وتصميم الكارتات والإعلانات التجاريَّة بأجور زهيدة جداً لا تكفي لشراء نعل واحد.


 هذا المكان سرعان ما أضحى ملتقى للأصدقاء من المثقفين، والسياسيين المتقاعدين، ومأوى لكتب الأدباء حنون مجيد وأحمد خلف يعرضونها للبيع صباحاً على رصيف الشارع، و”المكتب” ليس ببعيد عن عيون رجال أمن السلطة، فتعرّض لمرات عدّة للتفتيش والتحري، تتبعها استدعاءات مستمرة لدوائر الأمن، وبرغم هذه الأجواء الملبّدة بالخوف والقلق، كنا لا نضع ضمن حساباتنا الحذر واليقظة، من دون تحسب للنتائج، كنا نتداول الكتب الممنوعة (المصوّرة)، لا نكتفي بالأقرب بيننا، إنما تتوسع دائرة السذاجة لقرّاء من الأصدقاء والأقرباء، بلا مراعاة لقسوة إجراءات السلطة وبطشها، إذ لم تتردد لحظة في إعدام مجموعة من عمال الطباعة وأصحاب مكاتب الزنكغراف، تحت ذريعة “تزوير” الطوابع، كما ألقت القبض على عدد من باعة الكتب في اتهام تصوير الكتب الممنوعة وتداولها، التي تحولت فعلاً إلى ظاهرة لها أدواتها وجمهورها.

 حين تستعيد ذاكرتي الآن تلك العلاقة مع المكان، فثمة حكايات رافقت تلك الحقبة، وحين تكون الذاكرة المرتبطة بالمكان معتملة في خوالجنا، نلجأ إلى البوح عنها، مغامرة الإفصاح بالكتابة تعني تحويل الألم إلى حيّز ووثيقة، كل ما في قسمات الباعة وروّاد الشارع توحي بأنَّ الأيام باتت صعبة جداً، والقادم منها هو الأسوأ، رغم كل ذلك وهم لا يتوقفون عن الحلم والأمل، والقراءة، وفي مخيلتهم صور مشوهة ربما ستزول.

 كان صديقي التشكيلي، الأديب محمود حمد قد أعارني كتاب “الشيعة والدولة القومية” بنسخته الأصليَّة لمؤلفه حسن العلوي، وعلاقتنا بالأخ محمود ليست زمالة مهنة تمتد لعقود من الزمن، إنما تجمعنا مشتركات فكريَّة وسياسيَّة، واهتمامات فنيَّة وثقافيَّة واحدة، فضلاً عن ذلك هو جارنا القريب من المسكن والقلب، وجد أقصر السبل في عرض بضاعته من لوازم التأسيسات الصحيَّة العتيقة والمستعملة على سكة حديد حي الدورة في جنوب بغداد التي تحولت إلى سوق كبيرة لـ (تجارة العتيك)، وكانت بداية محمود (قويَّة جداً)،وهو يخوض غمار هذه التجربة الفريدة، إذ فكك أدوات ولوازم تأسيسات منزله أولاً بوصفها (زائدة عن الحاجة)، مردداً شعراً لمحمود درويش:

 لو كان لي حاضر آخر/ لامتلكت مفاتيح أمسي/ ولو كان أمسي معي/ لامتلكتُ غدي كلّه....

 لم أكتف وحدي بقراءة الكتاب الممنوع، إنما تسلمته مني العائلة فرداً، فرداً، باستثناء الوالدة لأنها لا تعرف القراءة والكتابة، ثم تسلمه الأصدقاء، والأقربون، كان أحدهم الصديق “حميد ظاهر” انتهى بعد أسبوعين من قراءة الكتاب، وأعاده إليّ ذات مساء، حفظته في مكان آمن في درج الطاولة ملفوفاً بكيس أسود، غادرنا المكتب معاً، ما زلنا في الشارع، فجأة أكتشف أنني نسيت الكتاب هناك، عليّ اٍلإسراع في العودة للمكتب إذاً، إلا أنَّ إشارة مطمئنة من صديقي حميد عطّلت صعودي السلّم .

 كان صباح اليوم التالي مخيفاً ومرعباً لي، أكاد لا أصدق، لم أفكر بمقدار العبث الذي أصاب أثاث المكتب البسيط، كان بابه مفتوحاً على مصراعيه، أسرعت نحو الكتاب، بذهول كنت أبحث عنه، لم أجد له أثراً، فكانت الصدمة الأولى، كنت أتنفس ناراً بدأت تجتاح أوردتي، أحدّق في مشبّك النافذة، كأنها حبال تمتد حول عنقي لتشنقني، غشاوة على بصري تمدّ ظلالها كخيوط جنون، سور على شفتي يخيط لساني المهجور.

 وضعت مفاتيح المكتب بيد صديقي قحطان الصفار الذي يدير مكتباً للنشر جواري، وغادرت المكان بسرعة، مرّت بضعة أيام بسلام، أراقب المكتب من بعيد وأنا على اتصال دائم مع الصفار، يوافيني بأيِّ متغيرات، في هذه الأثناء كنت أسير على الرصيف، أتطلع إلى الكتب المعروضة على الرصيف، كانت المفاجأة حين وقع نظري على (مصور الخط العربي) لناجي مصرف الدين، وهو إحدى الكتب النادرة من بين مفقودات المكتب، شعرت برعدة جسدي، طفقت أذهب وأجيء، متردداً في السؤال، رفعت الكتاب بيدي، تصفحته جيداً، هناك أكثر من دليل تثبت عائديته لي، سألت البائع(س- م) وهو صديق أعتز به:

- ما سعر هذا الكتاب رجاءً؟

- خمسة آلاف دينار!

- طيب يا أخي، ممكن تتساهل معي في السعر، صدقني هو كتابي، سُرِق من مكتبي قبل أيام، وإليك الدليل.

- ما شأني بذلك، (أنا أبيع واشتري) على باب الله، لا أتحرى مصدر الكتاب!

كنت أخشى أن أبوح بالسرّ، لكن عليّ أن أتقبل بالصبر لا بالرضا، عدتُ أسأله مرة ثانية:

- طيب، هل بمقدورك أن تساعدني في الوصول إلى البائع؟ هناك أشياء أخرى مسروقة مع الكتاب، يهمني معرفة مصيرها!

- أعتقد أنك تُتعب نفسك أكثر من اللازم! لا فائدة من البحث.

 خيّم صمت عميق بيننا، كان كلانا يتبادل الخوف، فأمسكت عن الكلام، ما عسى أن تكون ردة الفعل؟ لو عرفت السارق، ما الأثر الذي سيتركه في تلك النفس المتعللة بالرجاء.

 استجمع قواه، كان في رأسه طنين وحمى، وقف مصمماً على شراء الكتاب مهما كلفه من متاعب، غادر المكان مسرعاً، ترك البائع ومضى من دون أن يصافحه أو يلتفت إلى وراء، مكتفياً بفرح غامض، أملاً في مسك أحد الخيوط الواهنة، تعمّق إحساسه بلا جدوى السؤال، تبدّت له القوة الخفيَّة المسيطرة كابوساً رهيباً تتحرك المدينة تحت وطأته، وتراءى له الناس وفي عنق كل منهم أنشوطة، حتى هو والبائع، كل واحد يجاهد لقطع أنشوطته، وتحرير رقبته، الأنشوطات تشتد، والناس يسيرون في الاتجاه الذي حدده قدر أعور، يسيرون ببطء حتى لا تشتد الأنشوطة، ولا تضغط، بعضهم يقاوم، لا يبالي بشدّها وضغطها، بعضهم يستسلم لها، وصراع غير مرئي بين السواعد والأنشوطات، وساحة معركة فيها جثث مخنوقة، وأنشوطات فارغة، رقاب تحررت، وأخرى لا تزال مغلولة، ناس في الساحة، وآخرون على أطرافها، بعضهم يبكي، وبعضهم يئن، أو يكشفون عوراتهم ويضحكون، غربان في السماء، وديدان في الأرض.

 ما أشد قلقك يا صديقي! حين تعلم أن كتابك أصبح بيد مجهولة!!

 تكفي قصة واحدة من مسلسل الكتاب أن تدفعك إلى الفرار بلا مقدمات، النجاة بجلدك، لكن كيف؟ وإلى أين؟ أين تدور وأي الشوارع تحتمل اختباءك؟

كانت سمرة وجهك تحكي تبعثرك وارتباكك، حين لذتُ بالصمت، وأنا أختلق الأعذار، أمام إلحاحك في السؤال عن مصير الكتاب.

حاولت أن أبعث في نفسه الاطمئنان، بضع كلمات قلتها غير كافية لإزاحة القلق في عينيه:

- أخي محمود: أرجو أن تطمئن، علينا الانتظار بضعة أيام أخر، عسى أن نتوصل إلى ما يبدد مخاوفنا، ويزيح همّنا!

- أتمنى ذلك.

- أنتظر مساعي صديقي أحمد الصالح في التحري عن الكتاب، مع زملاء المهنة من باعة الكتب في الكرادة، عسى أن يتوصل إلى شيء مطمئن، لدي ثقة تامة في أمانته وصراحته.

وجد أحمد نفسه في امتحان عسير محاولاً مساعدتي في الوصول إلى الحقيقة، كنت أتحدث إليه بنبرة خافتة عن تفاصيل الواقعة بوضوح تام.

أعرف أنَّ لهفتي عبث وضياع، ها أنا أقتات على قلقي كميّت لم تغثه النادبات، انطلق إن شئت، لا مفرَّ لك سوى مغادرة المكان، فهو مزدحم بعيون اللصوص، وخفافيش الظلام، محاولة الصالح أزفت نهايتها، لا جدوى من الإيغال في المجهول.

أنت يا محمود كف عن السؤال! فحالك لا يقوى على المفاجآت هل ضجرت حين سرقوا حريتك، وهدّوا كيانك، ما عليك إلا النسيان، لكن تعال معي الآن، ما زالت النجوى تحاصرني، كي نفتح الملف من جديد بعد ثلاثة عقود من الزمن، تلك الحكايات لم تنته، وما زال السؤال مقيماً في داخلي، ما مآل الكتاب؟ من يهدّ جدار الصمت ليبوح.