سام شيبارد كما يرى الحياة

ثقافة 2023/05/24
...

 

جودت جالي



في واحدة من القصص الثماني عشرة من مجموعة سام شيبارد (حلم الجنة العظيم) تكتب عاملة الوجبات السريعة لافتة تقول (الحياة هو ما يحدث لك بينما أنت تخطط لشيء آخر) فيتساءل صاحب العمل حين يرى اللافتة مندهشاً: أيوجد أحدٌ من عماله (مبشِّر بالخير؟ يقظ ومهيأ بشكلٍ خاص؟) انعكاساً لدلالة اللافتة على الانشداد للحياة والاهتمام بها أولاً وليس بشيءٍ آخر،

وفي مجموعة (يوم مميز) * يستعير شيبارد عبارة لصاموئيل بيكيت يضعها في صدارة هذا الكتاب تقول (تلك هي الغلطة التي ارتكبتها... هي أني أردت قصة لنفسي، في حين أنَّ الحياة وحدها كافية). الحياة وحدها كافية، وهذا هو ما كان يوجه مسعاه في حياته الشخصية وينعكس في كتاباته كلما استطاع الإفلات من مشاغل هوليوود وبرودواي كما فعل أيضاً ممثلون آخرون ككيرك دوغلاس وأنتوني كوين، كتبوا ولكنْ ليس بدأبٍ وبمستوى شيبارد.

كل شيء في الحياة يمكن أنْ يكون هو القصة، كل ما يحدث يمكن أنْ يكون هو الحكاية، ولا يكتفي بكتابة المسرحيات (55 مسرحية) التي حاز بها عشرات الجوائز ومن بينها جائزة بوليتزر، ولا بالتعبير عن الحياة بالتمثيل على خشبة المسرح أو في أفلام حازت هي أيضاً جوائز، بل إنَّ دفاتره حاضرة، صغيرها في جيبه وكبيرها في حقيبته، يكتب فيها كل ما يخطر له ويصف ما يراه ويسجل ما يسمعه، فكلها قصص. لكنه لا ينتظر القصص والحكايات لتأتي إليه وهو جالسٌ في مطعمٍ قرب الأستوديو أو المسرح أو في البيت أمام التلفاز مكتفياً بما يشبه الحياة، إنه يذهب إليها لتكون الحياة هي ما يحدث له حقاً ويعيشها لوحدها بوصفها هي الكفاية. صدر لسام شيبارد عدة مجاميع قصصيَّة وحكايات قرأنا منها (تواريخ الموتيل) (الموتيل فندق يكون على طريق خارجي) و(التطواف في الفردوس) و(يوم مميز). يمكننا أنْ نعرفَ الكثير عن شغفه في التطواف من كتابه (سجل رولنغ ثندر) الطبعة الأولى 1978 الذي فاز بجائزة بوليتزر، وهو عن جولته مع بوب ديلان وفرقته الموسيقيَّة في ولاية نيو إنكلاند، كما يمكننا أنْ نفهمَ الكثير عن أدبه وأثره في المسرح المعاصر من كتاب كمبرج المخصص له، مثلما نحصل من مصادر موثوقة عن حياته الشخصية في سيرته (غرب حقيقي) 2023 الذي حرره روبيرت غرينفيلد، وبالمناسبة فإنَّ عنوان السيرة هو عنوان مسرحية لشيبارد فازت بجائزة بوليتزر سنة 1983. لكن ما نحصل عليه من قصصه التي يريد هو تقديمه لنا شيئاً يتمتع بخصوصيَّة لا تشبهها خصوصيَّة في إنجازاته الأخرى.

ليس جزافاً أنه عنونَ كتاباً قصصياً له (التطواف في الفردوس) 1996، والآخر (حلم الجنة العظيم) 2002، فهناك بيئة محددة في بلاده تستهويه، جعلها خلفيَّة القصص التي خصصنا حديثنا بها هنا من بين قصصٍ أخرى، هي الفردوس بالنسبة إليه، وهي المناطق النائية في الغرب الأميركي، بتراميها وانفتاحها العجيب، وطرقها الخارجيَّة العابرة للصحارى والجبال والأرياف وفنادقها. يعبّر بنصوصٍ عنونها أو ذيلها بتواريخ وطرق وأسماء أماكن عن انتمائه الروحي للمناطق الشاسعة المفتوحة والإغواء المديد لطرقها الخارجية (الجدير بالملاحظة أنه عمل راعي بقر في شبابه الأول وهو فارسٌ متمرسٌ ولذلك فالتجوال في البرية أحد مكونات جسده وعقله)، لا بل ينتابنا إحساسٌ بأنَّ هذا الانتماء له بعدٌ تاريخيٌّ لشخصيته يتعلق بانتمائه الثقافي، (كما توحي لنا قصة الناس الصغار مثلاً)، بالإضافة الى البعد السايكولوجي. تكون بعض النصوص على مستوى هذا التماهي والانفتاح فيلقي لنا سام، ربما في بضعة أسطر، وهو في أروع تجلياته الضوءَ على لحظات يخرج فيها الإنسان من إحباطه وتعاسته ويخطو أولى خطواته في اتجاه الأمل، ولكنَّ بعضها أيضاً تعطينا شخصيات تفشل في التواصل مع أي رؤيا، شخصيات يفتك بها الجنس أو تمحو وجودها الرتابة أو يتسلط عليها اليأس فتصبح قوى لا إراديَّة مدمرة كالرجل الذي يموت محترقاً تماماً في غرفة بفندق على الطريق ولا يخلف سوى مرتبة متفحمة.

لقد ترجمنا سابقاً عدداً من قصصه المعبرة عن أسلوبه ولقطاته النصيَّة ونشرت في ثقافيَّة الصباح. برأيي أننا نبالغ حين نتحدث عن كل نصوص هذه المجاميع بوصفها قصصاً أو حكايات فالعديد منها يفتقر الى مواصفات “قصص” بالشروط المعروفة، ففي مجموعة (يوم مميز) يوجد أكثر من مئة نص قسم منها ببضعة أسطر هو أقرب الى اللمحة من القصة أو بضع كلمات بطريقة كتابة القصائد أو، بتطرفٍ أكثر، عناوين كتب وملازم وقاموس اللغة الاسبانيَّة الدارجة، كلٌّ منفرداً بسطر، وتحتها ملاحظة “هذه بعض المؤشرات على حالتي المشتتة الراهنة”، أو يكتب نصَّاً حوارياً بين اثنين كما في النص المسرحي، حوارٌ فقط وبلا أسماء.

ما نستنتجه بعد القراءة أنَّ سام شيبارد لم يكن يترك خاطرة تخطرُ له أو فكرة تردُ في ذهنه إلا وسجلها لتكون في ما بعد قصة أو حكاية أو جزءاً منها أو إيحاءً بقصة أو بحكاية يعهد بها الى خيال القارئ.

* Day out of days (يوم مميز) ترجمة تقريبية لهذا العنوان الذي هو في الأصل عبارة يتداولها العاملون في الإنتاج السينمائي في هوليوود حول تحديد الأيام مدفوعة الأجر للعاملين تسجل في قائمة.