مفارقة الهوية: من مجال الدوغما الى فضاء الهجنة الثقافيَّة

ثقافة 2023/05/24
...

حسن الكعبي





“إنَّ الهوية عند ادوراد سعيد ليست مجرد شيء جاهز، تعطى للشخص، دون إرادته أو اختياره، بفعل انتمائه الى دينٍ أو شعبٍ أو قوميَّة. فمثل هذه الهوية، خصوصاً إذا اكتفت بما هي في حد ذاتها. تشبه بئراً يدلى فيها الإنسان لكي يبقى في العتمة، محجوباً عن ألق الإنسانيَّة، وعن بهاء العالم”

ادونيس



تنتج الهوية المنغلقة في سياق استبعادها للآخر المختلف استبدادها، ويتم تبرير هذا الاستبداد بذريعة الخصوصية وامتلاك الحق وتحقيق العدالة في سياق قراءات مغالطة لهذه المفاهيم، وبالذات مفهوم العدالة بوصفه مفهوماً قويماً يفترض انه يستبعد اشكال الظلم والطغيان والاستبداد، وهذه مفارقة تكشف عن كون العدالة المنطلقة من المجال العمومي، والتداولي كقيمة إنسانية مشتركة، يمكن أنْ تأخذ شكلاً متطرفاً ينتج الاستبداد في إطار الهوياتيَّة الأحادية، فالعدالة المنطلقة من الهوية النقية وتصديرها للحب الاستحواذي الذي يتوجه الى العشيرة أو الى القومية أو حتى الأسرة ويحيطه بسياجٍ يمانع تقبل الآخر المختلف عشائرياً أو عرقياً أو قومياً أو لونياً أو أي نوعٍ من الأنواع التي تنتجها الهويات الصلبة الممانعة، يندرج تحت مفهوم التطهير العرقي أو النقاء العرقي كمفهومٍ استبدادي من منتجات الفاشية والنازية بأسوأ طبعاتها، وفي المناخ تتحدد الهوية كما يؤكد – ادوارد سعيد – “بوصفها العملية التي من خلالها تفرض الثقافة الأقوى وكذلك المجتمع الأكثر تقدماً، نفسها بالقوة على أولئك الذين حكم عليهم بمقتضى منطق الهوية بأنْ يكونوا أناساً في درجة أدنى” وفي هذه الحالة تصبح الهوية ظاهرة مرضية وإشكالية يجب التعاطي معها ومعالجتها على المستوى الفكري والثقافي بغية الكشف عن تضميناتها وأنساقها الشوفينية الخطيرة التي تسعى لأنْ تتشكل كمبثوثٍ أيديولوجي مهيمن يسعى الى إدارة الوعي وتوجيهه الى مساحات دوغمائيَّة منغلقة تؤسس لمناطق الكراهيَّة وصناعة الشر.

في هذا السياق كان للفن والفكر والثقافة توجهات في الكشف عن مضمون الاستبداد في تمثيلات الاستقامة والعدالة ضمن منطلقاتها الاستحواذيَّة والانغلاقيَّة، ولذلك يقول محمد الجرطي “إنّ التفكير في الثقافات بوصفها «هجينة وغير مُتجانسة» له تكلفة سياسيَّة: يتطلّب هذا الأمر رفضَ أيّ خيارٍ قائمٍ على حقّ الدم، وأيّ فكرٍ يستندُ إلى الحدود العرقيَّة والهوياتيَّة والقوميَّة. كما يتطلّب هذا الأمر التفكير في الهوية، ليس بوصفها شكلاً متحجّراً؛ بل بوصفها عملية مُستمرّة في تطوير ذاتها”.

وعن ضرورة تجنب مخاطر انغلاق الهوية والتحول لخيار التعدديَّة والنظرة إليها في سياق هجنتها يقول ادوارد سعيد – عن قضية الهوية التي تعدُّ مسألة محوريَّة في أعماله انه “كان يشعرُ أنه في ملتقى العديد من الثقافات- العربيَّة والفلسطينيَّة والأمريكيَّة والإنكليزيَّة”، ولذلك أكّد على التعددية في هويّته. وأعتبر الكائن البشري ذاتاً مُتعدّدة دوماً في تقاطع ديناميات اجتماعيَّة وثقافيَّة وجُغرافيَّة وقوميَّة مُتعدّدة. فالواحد – في تصوراته - لا يختزل أبداً المتعدّد، حيث تقاس فرادة الذات بتعدُّد هوياتها وبما تصنعه بهما، بالطريقة التي تضطلع بهما وتعيدُ تركيبهما.

إنَّ الهوية عند ادوارد سعيد كمال يقول ادونيس “ليست مجرد شيءٍ جاهز، تعطى للشخص، دون إرادته أو اختياره، بفعل انتمائه الى دينٍ أو شعبٍ أو قومية. فمثل هذه الهوية، خصوصاً إذا اكتفت بما هي في حد ذاتها. تشبه بئراً يدلى فيها الإنسان لكي يبقى في العتمة، محجوباً عن ألق الإنسانية، وعن بهاء العالم”، لذلك فإنَّ ادوارد سعيد يدعو لتعددية ثقافية أو «في ما يدعوه بالهجنة الثقافيّة ذلك أنّ الأساس الحقيقي للهوية اليوم لا تؤدي بالضرورة دائماً إلى السيطرة والعداوة بل تؤدي إلى المشاركة وتجاوز الحدود والى التواريخ المشتركة والمتقاطعة، وانّه لعلى قدرٍ كبيرٍ من الأهمية أنْ نتذكر ذلك في وقت يحاول فيه متطرفون مثل - صامويل هنتنغتون - أنْ يقنعوا العالم بأنَّ صِدام الحضارات أمرٌ محتومٌ لا مفرَّ منه”، أو كما يرى هول “أنَّ هوية الفرد تتشكل فقط من تفاعل الفرد مع الآخرين ونظرة الفرد للآخرين تتشكل جزئياً من طريقة نظر الآخرين لذلك الفرد وبامتلاك الأفراد لهوية معينة هم إنما يتمثلون قيماً ومبادئ معينة تصاحب تلك الهوية، فهي تسمح لسلوك الأفراد ليكون مشابهاً من جانب الآخرين وكذلك تجعل السلوك في المجتمع أكثر نمطيَّة وانتظاماً”.

الفن والأدب ذهبا الى أبعد المناطق إظلاماً في مفهوم الهويَّة الأحاديَّة المتجوهرة حول ذاتها، حيث تنطلق الفاشية والاستبداد من مفاهيم مغلوطة حول مفهوم العدالة والاستقامة والتنقية العرقيَّة المتخفية داخل هذه الهوية، وهذه هي المفاهيم الأساسيَّة في مبثوثات الإرساليَّة الإنسانيَّة الكبيرة التي وجهها فيلم (تاريخ امريكا اكس أو النازيون الجدد) من إخراج توني كاي، ومن تجسيد المتألق (ادوارد نورتون)، إذ يركز الفيلم على محور استمالة الشباب الجامعيين من البيض لتأسيس حزبٍ نازي يدين بالولاء لهتلر وهدف الحزب تنقية العرق الأبيض من زنوج امريكا، يكشف الفيلم عن البشاعة التي توجه الى الزنوج من قبل الشباب البيض الذين سيطر عليهم هاجس المحافظة على أسرهم وحضارتهم من اختلاط الملونين، وبالنتيجة فإنَّ الفيلم ينتهي بمأساة البطل الذي يخسر أعز ما يملك (أخوه ورجولته وحريته من خلال سجنه بجريمة قتل بشعة ارتكبها بحق أحد مواطنيه من الزنوج) النتيجة التي ينتهي إليها الفيلم هي أنَّ القوانين والمبادئ ومهما لبست شكل العدالة والنقاء العرقي فإنها تنتج الاستبداد طالما أنها مخالفة للقوانين الإنسانيَّة.

ربما تبدو هذه المباني النظرية في نقد الهوية الأحاديَّة وإنتاجيتها، من المباني البديهيَّة، لكنها ليست كذلك، بل أنها من المباني الإشكاليَّة وقامت عليها جملة من التصورات الفكريَّة والمفاهيم التي تسعى لأنْ تضبط القوانين وترشدها تجنباً للوقوع في إشكاليَّة الاستبداد، فقد تنتج الاستقامة في إطار القراءات الثقافيَّة التي تستبعد المعايير الإنسانيَّة في ضبط إيقاع المفاهيم الإنسانيَّة، لتختلق معياراً خاصَّاً يتطابق مع هواجسها الهوويَّة، أنواعاً من الاضطهاد، وقد أكد وليم فوكنر في رائعة (نور في أب) هذا المعنى، إذ يقدِمُ جو كرسمس بطل الرواية على قتل “لينا” المرأة التي قامت بتربيته وهو المنبوذ الذي يمتلك دماً نصف أسود ونصف أبيض في مجتمعٍ تسيطر عليه قوانين العنصريَّة، فيعاقبه المجتمع بالقتل وهي نهاية يراها المجتمع عادلة بحق “كرسمس”، لكن فوكنر يرى الأمر من منظارٍ آخر، فهو يعبر على لسان الكاهن هايتور (العدالة أحياناً تنحو الى شكلٍ من أشكال الاضطهاد)؛ يقصد فوكنر أنَّ قتل كرسمس لم ينطلق من قانون القصاص العادل، إنَّما من التحرك بهاجس العدالة من منطلق عنصري، فلو كان كرسمس أبيض البشرة لكان القصاص منه موكولاً للقضاء، بهذا المنظور العبقري يقارب فوكنر شكل العدالة المنطلق من انغلاق الهويَّة المؤسسة لفرعيتها والممانعة للاندماج في الهويَّة الإنسانيَّة والتي ستتضمن - أي الهوية الفرعيَّة وهي تتحرك ضمن هذا المجال - توجهات قاتلة كما يرى الروائي الكبير أمين معلوف.