هل من قيامة بعد كل هذا الخراب؟

ثقافة 2023/05/24
...

دعد ديب


من قلب الوجع تطلُّ علينا رباب هلال بإحدى سرديات الحرب وما تكشفت عنه من أزمات اجتماعية مختبئة في ثنايا ما أسمته مجموعتها القصصية “قومي يا مريم” الصادرة عن دار التكوين لعام 2021 بدعمٍ من الصندوق العربي للثقافة والفنون”آفاق” بقصٍ أشبه بالتسجيلي لما خلفته الحرب من ندوبٍ وقروحٍ في الروح والجسد وفي البنيان المعماري للأحياء والشوارع والمدن.
عناوين تعكس هموماً متتابعة تفرد مواجعها على مدار مئة وثلاث وعشرين صفحة ففي “إنهم هنا: وفي عبارة الأم “أخرجيهم من هنا” تكسر الكاتبة المسافة بين الواقع والخيال لتجعلها فضاءات متداخلة فما تظنه خيالًا يتجسد واقعًا في عالم الرعب فالمسيطر هم الأموات والضحايا يلتجئون إلى البيوت بعدما فاضت بهم المقابر ولفظ البحر الغرقى منهم في قوارب الموت، الموت الذي لم يوفر حتى شباب الهلال الأحمر المسعفين، الصدمة والمفاجأة عندما تمسك بها يدان بعد أنْ أقنعت الأم طويلًا أنه ما من أحد متواجد في الغرفة، نوع من الرعب يذكرنا باشتغالات وعوالم ادغار ألان بو، نعم إنهم هنا لا يبارحون الذاكرة ضحايا أقدار أفلتنا منها بأعجوبة.

في”غاردينيا بين الأصابع” منذ السطر الأول تضعك رباب هلال في عين الحدث وفي بؤرته باقتصاد لغوي يجعلك تكتم أنفاسك بانتظار تبريرٍ أو تفسيرٍ لخيالات مختلفة لأناسٍ تتباين مصائرهم فمنهم من غيبه القصف العشوائي ومنهم من قضوا في المعتقلات وبعضهم وقع رهينة الخطف ليكون السؤال المحرج الجارح “ما معنى البقاء وسط هذا الجحيم”، وحدها زهرة غاردينيا بلا رائحة تلمع في الماء تحت حطام البناء في اليد الباقية بين الركام إثر بناء يتهدم تحت وطأة القصف ترمز لما كان.

في “سكر بنات”: رغم الحواجز التي تبتلع الشباب في إشارة إلى دخول ما هبَّ ودب من الدول والتنظيمات والخلايا في المقتلة السورية لا تنسى الكاتبة تسليط الضوء على القضايا الاجتماعيَّة في أمرها الخاص والرائحة التي تشمها في بيتها وفي علاقتها المضطربة مع زوجها فالظنون أرحم من اليقين، ففي سلخ الجلد بقطعة السكر تسلخ تاريخها وتجربتها مع ذلك الرجل فالحرب تخرب البشر حتى في علاقتهم الخاصة لحدث لن يكون طبيعيًا مهما طال زمنه.

الذاكرة الموبوءة بالزهايمر يتم استنطاقها في القصة التي استعارت منها اسم المجموعة “قومي يا مريم” العنوان الذي يشي بالكثير من المعاني المضمرة وفق تأويل القارئ لتكون “صباح يختلف قليلًا”: الجارات يتشاجرن على شطف الدرج بينما القذائف تلعلع أصواتها لا تختلف فيها الشجارات تحت وطأة الحرب كمن يتلهى بالشؤون الصغيرة عن رؤية الكارثة المحدقة. 

في “موعد غرامي”: سامية التي تتهيأ لموعدها الذي أتى بعد انتظارٍ طويل تخشى فيه أنْ يكون فرصتها الأخيرة في زمنٍ لم يعد فيه متسعٌ للعشق والحياة الخاصة وهي تستعجل الدقائق لموعدها المرتقب وأمها المريضة تؤخرها بطلباتها المتواصلة رغم تدبرها لمن يعتني بها بغيابها وهي تسابق الوقت بمن يشدها للماضي والحياة تدعوها للأمام قبل أنْ يخذلها الزمن لأنَّ الفقر والألم وجرائم الشرف تجتمع كلها في بيئة واحدة، في حكاية “عند الفجر”: تكون دائمًا النساء هم الضحية الدائمة نزيد عليها هموم الحرب ثالثة الأثافي حيث أصغر الزعران بات يحمل “بمبكشن” وعبارة “ يلعن” على كل لسان.

العبارة الاستفزازيَّة بين حبيبين أو زوجين “لو تمسك بي يدك”: تصبح أمنية ترتجى بعد الغياب غير المحدود والأمل المفقود للمهجرين أو للمختفين قسريًا. 

“قرصة برد” في خروج الحشد من الشاشة كسر سلاسة التلقي لدى القارئ، فالصبية التي اندفعت للمشاركة قادتها الحماسة لرفض كل سلطة حولها بدءًا من ثروة أبيها لغطرسة أخيها إلى ببغاوية أمها حيث التفاهة تطغى فيمن حولها والقماشات الكثيفة التي تطوق جسدها ورأسها كلها تريدها أنْ تغادر، ولكنْ للأسف هي الضحية هي من تغادر.

اللحظة المعلقة هي ما يحلو للكاتبة أنْ تنهي بعضًا من قصصها وتركها لاحتمالات القارئ في مشاركته بإمكانية تأويل الحدث عبر الأمل بحلٍ ما؛ أو بالإيحاء بتكرار واستمرار المشكلة طالما استمر الوضع العام الذي سمح بنشوئها ففي “دعاء سعد” الطفل الوحيد المتروك من قبل الجدة التي تغيب لنشاطات مريبة، يواصل دعاءه كي تأتي وتصل وتنقذه من البرد والوحشة في انتظار يائس وهو يتدلى من الشرفة يرقب الطريق إلى أنْ تنتهي بسقوطه وهنا لا نعرف إذا مات أم نجا أو تم إنقاذه أو إذا وصلت الجدة كلها أمانٍ متروكة للاحتمال، وفي “الحاجز” تذهب خيالات الساردة وسط الخوف والترقب أثناء السفر من مدينة إلى أخرى بمن يبتلعه الحاجز إلى مكانٍ لا يعلمه أحد، ومن خوفها على صديقتها عبير التي يبدو أنها تمارس نشاطًا سياسيًا ما أثناء تفقد المطلوبين ومصيرهم غير المعروف للسوق لاحتياط التجنيد أو للمعتقل فكلاهما في طريق المجهول ولكل فرد حكايته الخاصة من العجوز الثمانيني المصاب بسرطان الحنجرة لوسام المعيل لجديه العجوزين وبين الخوف على الآخرين تكون هي في فم الخطر هي المستهدفة، إذ تنهى بإنزالها من الباص إلى مكانٍ غير معلومٍ ولا نعرف إذا علقت بأزمة ما أو توقيف أو اعتقال أم خرجت منها، أما في”الضيوف” فترجع إلى بيتها في حرستا بعد أنْ سمح لهم وهي في حالة اشتياق لأمانٍ فائتٍ أكثر منه الرجوع إلى مكانٍ محدد، البيت الذي طالما فتحه الأب للضيوف طمعًا بمنصب ما قبل أنْ يعاجله الموت وتتشتت العائلة بفعل الأحداث، اختتمتها بانهيار السلم بها هي وشقيقها وهي معلقة بين السقف والأرض ولا نعرف بعدها ما الذي حصل، تقف الكاتبة عند هذه النهاية المتقلقلة لتترك المجال لخيالنا كي يضع تكملة مناسبة لما عشناه وما عاشه الكثيرون، أولئك العالقون في حمى الكارثة، ففي زمن الحرب ينهار المكان فلا مكان ثابتاً لأحد وأي مكانٍ آخر طارئ لا ديمومة فيه، هو مشهدٌ واحدٌ ترصده عدسة صاحبة “أجراس الوقت” من أكثر من زاوية لذا لا عجب أنْ تردَ ذات الأسماء في قصصها التي تركز كل منها على جانب من اللوحة العامة في القص المعتمد على الراوي العليم وكأنها نوعٌ من السيرة الذاتية تلتقط الذات الساردة الواقع المحيط بها وما حولها من شخوصٍ وأحداثٍ التي يمكن أنْ ننسبها في التجنيس إلى ما يسمى المتوالية القصصيَّة فقد اعتبر الروسي شكلوفسكي أنَّ المتوالية القصصيَّة تعدُّ أصلًا للرواية أو مرحلة بين الرواية والقصة القصيرة، كما يعدُّ المذكور من أوائل من شخصوا هذه الظاهرة، ظاهرة المتوالية القصصيَّة لكوننا نلاحظ محافظتها على الوحدة المكانيَّة التي تتحرك بها ذات الشخوص، فالمتوالية القصصيَّة تشترك في البنية المكانيَّة الواحدة أو تبنى على مكونٍ واحدٍ أو تقوم على وحدة الشخصيَّة الروائيَّة، أو وحدة الزاوية التي يتناول منها الكاتب موضوعه، وحدودها سائلة أي قد تشتبك مع الأجناس الأخرى وفق قول الناقد روبرت لوشر، فالتماسك النصي التي تميزت به المجموعة كان هنا بفعل الانتماء إلى المكان ومراعاة الاستقلاليَّة في كل لوحة مرسومة يجمع بها خيطٌ يربطها لتتكامل ككيانٍ واحد، نصوص “قومي يا مريم” كلها مشاهد من لوحة واحدة وجهت عدستها بأكثر من اتجاه فتارة إلى جزءٍ وطورًا إلى جزءٍ آخر تجمعها هموم البشر وجراحاتهم المفتوحة.