عن محبة النوع البشري

آراء 2023/05/25
...

 رعد أطياف

 كل فعاليات الكائنات البشرية هي تنويعات لهذين الحالين: البحث عن السعادة وتجنب المعاناة. كل ما نقوم به من أقوال وأفعال نبغي به عبور ضفة الألم والفوز بيانصيب السعادة. هل ثمة عاقل يجري خلف الألم برجليه؟! من الممكن ذلك لكنه يكون على شكل اختراق للمصاعب ومواجهتها برباطة جأش وليس انغماساً وتعطشاً للألم بطريقة سادية. وبما أننا نندرج جميعنا من دون استثناء في هذه الحقيقة الوجودية -السعادة والمعاناة- فنحن أمام مصير مشترك لا يسعنا إلا أن نتضامن على محبة النوع البشري، لكوننا نركب القارب نفسه. لكن الكثير من البشر تهيمن عليهم النزوعات الحزينة فلم يتعلموا المحبة؛ ذلك أن الشعور بالحزن المتواصل هو نقيض المحبة.

ثمّة فارق بين أن تكون شديداً بعض الشيء وأن تكون حزيناً دوماً؛ ففي الشق الأول أن تؤسس للمحبة الكبرى، محبة النوع البشري وتحاول استئصال الحزن الراسب في الأعماق، كأي طبيب لا يمكنه التفرّج على الألم حتى لو اضطر استخدام أقسى الأساليب، لأن الغاية المرجوة هي المحبة التي تدمر الشرط الذي أسسته كبرياء الأنا وجحودها. قال زرادشت نيتشة «هكذا خاطبني الشيطان ذات مرّة: للرب أيضاً جحيمه: إنها محبة 

البشر». 

أما الشق الثاني: أصحاب الخطايا المسرفين على أنفسهم لشدة الجهل المترسّخ في أعماقهم لا يمتلكون الجسارة على محبة النوع البشري! أنهم كالعناكب متعطشة دوماً للانتقام. أصحاب الخطايا هم الأكثر إيلاماً- بحسب زرادشت نيتشة- لأن» لسعات تأنيب الضمير تدريب على العض». وبدافع التبرير وإخفاء المشروعية تقول العناكب»إن العدالة تعني لدينا أن تغمر العالم عواصف انتقامنا.. انتقاماً نريد أن ننزل بكل الذين ليسوا مثلنا..».

بيد أن التوغل عميقاً في فوهة الوجود يلقي علينا ظلالاً من المحبة.

 وهذه الأخيرة لا تعني الاضطرابات العاطفية البائسة التي اعتدنا أن نطلق عليها كلمة «حب»، ذلك أن الحب عطاء لا محدود، وتأتي لا محدوديته لا من حيث الكم، وإنما من حيث هو محض عطاء بلا شروط مسبقة، فإذا حل الشرط غاب الحب وتقنّع بقناع الواهب المعطاء بيد أنه غير ذلك تماماً؛ أنه تسويل من تسويلات الأنا، وهذه الأخيرة ترى وجودها أكثر أهمية من الآخرين، فهي لا تقوم لها قائمة إلا من خلال العطاء المشروط، عطاء المساومة والإذلال والانتقام في حالة عدم الوفاء بالشرط من قبل الآخرين.

كانت بضاعة الأنبياء والمتصوفة والفلاسفة هي محبة النوع البشري؛ ثمة حمل ثقيل يصاحبهم أين ما حلوا وارتحلوا: أنه الإنسان بشجونه، وحماقاته، ودروبه الملتوية، وطرقه العجيبة. 

كانوا مغرمين بفكرة التجاوز: أيّها الإنسان صر ما تريده أنت، تجاوز حالتك المٌصطَنَعَة، على الرغم من أن الجواب يأتي غالباً على صيغة «حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» غير أنه لم يحرك روح الإحباط لدى أطبّاء النوع البشري، وظلت محبة هذا النوع وقودَ عقولهم

 وقلوبهم.

مساكين نحن بني البشر، فرغم كل الحقائق التي تشير إلى هذا الكل العلائقي، الكل المترابط، التوليفات الهائلة، الاشتراك بحقيقتي السعادة والمعاناة مع اختلاف الدرجات، لكننا نصر على إبادة بعضنا البعض بأيدلوجيات 

مصطَنَعَة. 

نحن لا نحب لأننا لا نصير ما نريد، ولا نتجاوز ذواتنا إلى رحابة أوسع، نحن لا نحب لأننا اعتدنا الألفة، ألفة الآباء، حسب النص القرآني، أي ألفة المواضعات الاجتماعية. وإن غدا الشيء عادة أضحى جزءًا لا يتجزأ من الوجود، فمن لم يتجاوز مسبقاته لا يفوز بيانصيب الحب، وينظر إلى الناس كلهم سواسية في تجربة السعادة والمعاناة، بيد أن هذه الحقائق الكبيرة لا تقدر عليها النفوس الصغيرة، ومن هنا كانت محبة النوع البشري لأفراد 

قلائل.