ثامر عباس
غالباً ما ينظر إلى الخطاب الإعلامي الرسمي على أنه وسيلة من وسائل الدعاية السياسية والتضليل الأيديولوجي. لا لشيء إلاّ لكونه ممهورا بطابع الدولة المسيطرة ومنظور إليه كأداة فاعلة من أدوات سلطتها الناعمة في مجالات الضبط الاجتماعي والتوجيه الثقافي. ولهذا قلما عوّل الجمهور المتلقي على ما يطرحه هذا الخطاب من معلومات وما يقوم به من تحليلات. خصوصا حين يكون هذا الخطاب صادرا عن مؤسسات سلطة ساهمت سياساتها التعسفية وإجراءاتها القمعية في نسف جسور الثقة، بينها وبين من تقع مسؤولية حمايتهم ضمن واجباتها الوطنية والأخلاقية.
ولكن. وبرغم شيوع هذا الانطباع بين الناس. فإن وظيفة الخطاب الإعلامي - لم تكن ولن تكون - مقصورة على تبرير الممارسات وترويج الإجراءات، التي تتبناها سلطة الجماعة الحاكمة دائما وأبدا، وإنما هناك نوع من الخطابات ساهمت – وستساهم – في نشر الثقافة الإنسانية وتعميم الوعي العقلاني. عبر قيامها بوظيفة (النقد) المعرفي والسوسيولوجي للانحرافات التي تتورط فيها الحكومات. واضطلاعها بدور (التنوير) للذهنيات، التي أدمنت التخبط في التهويمات والتشبيحات. ولعل الكثير من التجارب والممارسات التي شهدنا معطياتها وعشنا تجاربها. سواء على صعيد بلدان العالم الغربي، الذي قطع شوطا بعيدا في هذا المضمار. أو على مستوى بلدان نظيره العالم الشرقي التي لا يزال بندولها السياسي، يتذبذب ما بين دكتاتوريات متشددة مدججة بالعنف وبين ديمقراطيات شكلية مبتلاة بالفوضى. ما يؤكد هذا النموذج أو يدعم هذا المثال من التعاطي الايجابي والبناء.
ولعل من أبرز خصائص (النقد) الهادف في الخطاب الإعلامي. هي تسمية الأشياء السلبية بأسمائها الصريحة دون لف أو دوران. وتشخيص العلل والأعطال الاجتماعية بجرأة دون القفز فوقها أو التعتيم عليها. بحيث يستهدف الظاهرة موضوعة النقد بصورة (علنية)، وبطريقة (مباشرة) دون رتوش أو تزويق. متخليا بذلك عن أساليب (المداورة) و(المراوغة)، التي من شانها جعل عملية النقد ذاتها بمثابة ستار يخفي القباحات ويحمي التجاوزات. بدلا من أن يسوق النظر الفاحص والفكر المدقق إليها. ويسلط الأضواء الكاشفة والفاضحة عليها كما ينبغي للنقد أن يكون. ويشير من ثمة إلى سبل الإصلاح الواقعي والمعالجة الملموسة، التي تسهم في تقويم الاعوجاجات وتصحيح المسارات.
ومن هذا المنطلق. ليس من مصلحة الخطاب الإعلامي الجاد في وظيفته والحريص على رسالته. أن يتردد باللجوء إلى اللغة التي تحتوي في أروماتها العبارات الصريحة حتى وان كانت قاسية والكلمات المباشرة حتى وإن كانت حادة. سواء كان أثناء وصف الحالة الشاذة أو الظاهرة المدانة. أو خلال نقد هذه وتعرية تلك بما يتناسب وخطورة عواقبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على المجتمع. ذلك لأن استخدام هذه الطريقة في المواجهة، لا يحقق فقط معدلات عالية في (التوعية) و(التثقيف) لجمهور العامة المخدر في وعيه فحسب. بل وكذلك يبصّر صاحب القرار المعني بمدى عمق الأزمات وجسامة خطورتها على الدولة والمجتمع. هذا بالإضافة إلى إرشاده إلى ماهية الإجراءات الواجب اتخاذها لوضع الحلول واقتراح المعالجات.
وعلى هذا الأساس. فإن إيعاز المسؤولين عن وظيفة الخطاب الإعلامي. سواء داخل مؤسسات المجتمع السياسي أو داخل منظمات المجتمع المدني. حيال (تلطيف) عبارات (النقد) المعرفي و(اختزال) جمل (التحليل) السوسيولوجي. بقصد حمل الرعية المضللة بالأكاذيب على تكوين الانطباع، بأن الأمور تجري على خير ما يرام وأن ليس هناك ما يقلق. لن يفضي إلى حل المشكلات الاجتماعية المتوطنة وإزالة الصعوبات الاقتصادية المزمنة. بقدر ما يفاقم الأولى ويراكم الثانية على المديين المتوسط والبعيد. بحيث لن يمر وقت طويل حتى تشرع الأوضاع السياسية والأمنية - المحتقنة أصلا- بالتأزم والتفجر. ولكن هذه المرة بأشد ما يكون عليه العنف من قسوة والتطرف من ضراوة!. ناهيك عن أن انتهاج مثل هذه الممارسة (الانتقائية) في اختيار لهجة الخطاب والسعي للحد من طابعه النقدي. سوف يحرم الجمهور المحاط بكل ما يجعله مدجن الوعي وعديمي الإرادة من فرصة التغلب على أميته الثقافية المزمنة. والتمكن من تحقيق تراكم معرفي هو بأمس الحاجة إليه يتيح له التعاطي مع المستجدات بمرونة عقلية وإدراك صائب.