جواد علي كسار
هذه الفكرة غير انتخابية أثيرها على هامش الانتخابات التركية، ترتبط بأحمد داود اوغلو. فهذا الرجل الذي ولج باب السياسة من نافذة الأكاديمية، قدّم لتركيا مدوّنة استراتيجية من الصعب أن نعثر على مثيل لها ليس في تركيا وحدها، بل في المحيط العربي والإسلامي المجاور؛ هي تلك التي صدرت ترجمتها العربية، بعنوان: «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية».
مع كلّ عودة متجدّدة لهذه المدوّنة ألحظ بسهولة البون الشاسع التي يفصلها عن أعمال يُفترض أنها شبيهة لها في العالم العربي. على سبيل المثال تبدو لي تنظيرات أمثال أمين هويدي ومحمد حسنين هيكل من مصر، وفاضل البرّاك من عراق صدام والبعث، أقرب ما تكون إلى إنشائيات ساذجة عن الاستراتيجية والأمن القومي، إذا ما قورنت بعمل داود أوغلو. كما أن هناك مسافة غير قليلة تفصلها عن تنظيرات أكثر جدية كتلك التي قدّمها حامد ربيع مصرياً، وجواد لاريجاني إيرانياً.
حقيقة الأمر، لا أجد مجالاً لمقارنةِ مدوّنة أوغلو حتى بكتابات الأكاديمي ثمّ السياسي الأمريكي لاحقاً هنري كيسنجر، وإن كانت المقاربة لا تُعدم بينه وبين المدوّنات النظرية للمنظر والسياسي الأمريكي زبغنيو برجنسكي، وإلى حدٍ ما كونداليزا رايس.
كنتُ يوماً أعتقد أن أفضل منظّر للاستراتيجية والتفكير الاستراتيجي أفرزته إيران في عهد الجمهورية الإسلامية، هو لاريجاني لاسيّما في أطاريحه الرئيسة عن الأمن والسياسة الخارجية، كما تبلورت في نظرية «أم القرى»، بيدَ أني عدلت عن هذه الرؤية عندما تراجع لاريجاني داخل إيران أمام مدرسة جديدة مندفعة بقوّة، من رموزها محمود سريع القلم وسجاد بور ورحمن قهرمان بور ومن يقع على أضرابهم، لكن مرّة أخرى مع مسافة كبيرة تفصل بين جواد لاريجاني وداود أوغلو لصالح الأخير.
لن أذهب بعيداً بل أكتفي بمثال واحد يصنّف الدول إلى خمس مجموعات، هي الدولة المركز، والدولة القارية، والدولة الجزيرة، ودولة العبور وأخيراً الدولة الطرفية الهامشية. وقد لاحظ أوغلو إن تركيا تموضعت في الموقع الأخير من هذه الهيكلية، ما دفعه لبناء تصوّر استراتيجي يقضي بنقلها إلى دولة محور، توطئة لتحوّلها إلى دولة مركزية.
حلم الدولة المركزية ومن الدرجة الأولى، هو جوهر التفكير الذي تعزّز تركياً في العقدين الأخيرين، داخل خطّ السلطة ومعها المعارضة إلى حدٍ كبير، لكي يتحوّل إلى استراتيجية للأتراك جميعاً أو لغالبيتهم. والملاحظ أن هذه البوصلة بقيت تأخذ بيد داود أوغلو، وهي تنتقل به من موقع الاستشاري في حكومات حزب العدالة والتنمية، إلى مواقع وزير الخارجية ورئيس الوزراء ورئيس الحزب، ولم تنفصل عنه حتى حين غادر الحكومة وانشقّ على الحزب وأسّس حزباً خاصاً به.
هذه هي حقيقة التفكير الاستراتيجي، يجمع ولا يفرّق، ويستقطب الطاقات، ويوحّد بين السلطة والمعارضة، ويأتلف الصفوف ويستقطبها لمركزية واحدة؛ ما أحوجنا في العراق إليه!