الثقافة والتأخر

آراء 2023/05/28
...






 عدي حسن مزعل


لعل من البديهي رد التأخر في بلد ما إلى السياسة أو الاقتصاد، مع ذلك ثمة عامل آخر لا يقل أهمية، وأعني به (الثقافة). نعم، الثقافة. فلهذا المجال حصة الأسد في التأخر، رغم التشابك والتداخل بينه وبين بقية المجالات، من سياسة واقتصاد واجتماع، بوصفها عوامل فاعلة في المجتمع ومؤثرة في نهضته من عدمها. 

والذي أقصده تحديداً بـــ (الثقافة) هو: البنية الفوقية للمجتمع، والتي تتألف من التقاليد والقوانين والدين والفلسفة والفن والقيم العامة السائدة في المجتمع. وهذا المركب المتجانس من كل هذه المجالات هو ما يشكل (هويتنا الحضارية).

يذهب الكثير من المفكرين إلى أن (التغيير السياسي) لا بد من أن يسبقه (تغيير ثقافي). أي أن التغيير إذا ما أُريد له أن يتحقق ويلبي تطلعات المجتمع، فلا بد من تحديث في ثقافة المجتمع يسبق التغيير السياسي، تحديثاً يرى في (العدالة الاجتماعية، المواطنة، الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، العقلانية)، قيماً ومبادئ يجب غرسها في أذهان عموم أفراد المجتمع، عند ذلك ينجح التغيير ويتحقق المطلوب. 

والدليل على ذلك تجارب دول (الربيع العربي) التي لم يتحقق فيها التغيير المنشود رغم إزاحة بعض الأنظمة فيها. وبعبارة أخرى لماذا لم تنجح شعوب بلدان مثل (مصر، ليبيا، تونس، اليمن) في أحداث نقلة في مجتمعاتها، رغم أن تغيير السلطة السياسية قد تحقق في هذه البلدان؟ جواب ذلك يعود إلى أن الثقافة السائدة بقيت هي هي ولم يطلها التغيير. فالذين وصلوا إلى السلطة في هذه البلدان (هم من قماشة السلطة السابقة ونسخة منها)، يحملون ذات الثقافة التي كانت تحملها السلطة السابقة. حتى أن بعض شعوب المنطقة بدأت تحلم بالعودة إلى الماضي، إلى السلطة التي انتفضت عليها سابقاً، لأسباب عديدة: أولها عدم قطف ثمار التغيير، وآخرها غياب الأمن والتدخل الخارجي الذي جعل من بعض البلدان مسرحا للصراع العسكري، حال ما حصل في ليبيا واليمن وسوريا. 

إن معظم المجتمعات تعتقد أن التغيير يحصل بمجرد الإطاحة بـــ (السلطة السياسية)، وهذا كما أثبتت الكثير من التجارب في دول العالم ما هو إلا (وهم). وتجربتنا في العراق الذي شهد انقلابات عديدة منذ عام 1958 سنة سقوط الحكم الملكي وتأسيس الجمهورية، وعام 1968 سنة الانقلاب البعثي والسيطرة على الحكم، حتى سقوط هذا الأخير (البعث) عام 2003 بتدخل عسكري غربي، إلا دليل على ذلك، على أن إزاحة النظام السياسي لا تكفي لتحقيق (التغيير الحقيقي)، ما دام العراقيون لم يتغيروا على صعيد (الوعي) و(الثقافة) بعد سقوط النظام.  ورغم أن تجربة حزب البعث، وما جرته من ويلات وكوارث، كان يمكن لها أن تكون فرصة ذهبية، لبداية تتعظ من الماضي (ماضي حكم البعث)، وتؤسس لحقبة جديدة تنبذ الثقافة الدموية والعنصرية والطائفية، وتدفع صوب بديل آخر يؤمن بـــ (العدالة الاجتماعية، المواطنة، حقوق الإنسان..... الخ من القيم التي سبق ذكرها)، غير أن ذلك لم يحصل! لذلك جاءت النتائج صادمة ومخيبة للآمال.  وربما تصور معظمنا أن إزاحة النظام السابق كفيلة بإحداث نقلة سريعة في مجتمعنا، كما يحصل في أفلام الكارتون، حين يموت الساحر أو الشرير في نهاية القصة، فتظهر الشمس بعد الظلام، وتزدهر الأرض بعد الخراب، لكن شيئاً من هذا لم يحصل. مع التأكيد على جملة من الإيجابيات التي تحققت، وهي إيجابيات لا يدركها إلا من خبر كابوس البعث ورمزه الدموي.  وآية ذلك أننا نعيد إنتاج ذات الثقافة، وما لم تتغير الثقافة، ما لم تجرف كما تجرف البلدوزر الأرض كي تجعلها صالحة لن يتغير شيء. ولذلك فإن واحدة من أسباب تأخر مجتمعنا هي (الثقافة)، بل إن أزمتنا هي (أزمة ثقافة)، كرستها عبر التاريخ أيديولوجيات ونظم سياسية، وجدت في أشكال معينة من الثقافة (دينية، عشائرية، علمانية) عاملاً مساعداً على تعزيز هيمنتها وبسط نفوذها. وهذه بدورها (أقصد الثقافة) غرست فينا سلوكيات، لطالما حذر من خطورتها عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي)، كــ (ازدواجية الشخصية وحب التسلط والظهور). وربما نسي الوردي أن يضيف (عبادة العنف والقوة) التي تخلق أقوياء يعشقون التسلط وضعفاء رعية تعبد القوة وتتملق أصحابها. ولو بحثت عن تفسير مادي(أسباب اقتصادية) وراء بعض السلوكيات والعبارات الشائعة في مجتمعنا مثل: (إني رب العباد ما يخوفني)، أو (لو ألزم السلطة يوم واحد إلا كلها أعدمها)، (وهي عبارة يرددها الكثير من أفراد المجتمع)، عبثاً تحاول. فالأمر في ما يتعلق ببعض السلوكيات والخطابات الرنانة، وغيرها كثير، مصدرها الثقافة السائدة. ولذلك ما لم تبحث أسباب التأخر على صعيد الثقافة، فإن النتائج ستبقى ناقصة وغير مستوفية.