بيت العتيك مبارك

الصفحة الاخيرة 2023/05/28
...

محمد غازي الأخرس
ويقولون في أمثالهم: بيت العتيك مبارك، وأحياناً: بيت العتيك عمارة، قاصدين التبرك بالمنزل القديم وتفضيله على المشيد حديثاً. 

ثم توسع الناس في الدلالة، كما يقول عبد الرحمن التكريتي، فصاروا يطلقون المثل على الرجل الغني إذا طلبوا منه قرضاً. 

تراهم يقولون له: يلله أبو فلان، بيت العتيك مبارك، ليحثوه على تلبية طلبهم، فكأنهم يقولون له: بيت السبع ما يخلى من العظام. 

وهو نوع من "القشمرة" المتواطأ عليها اجتماعياً، والتي يفضلها العربي ويختصرها قولهم: شيم العربي أو المعيدي واخذ عباته، على اعتبار أن العربي سريع الانخداع، بحثاً عن المديح الفارغ، ويمكن بكلمتين أو ثلاث إيهامه أنه حاتم الطائي فيخلع عباءته لسائله. 

لكن، ما هو مرد البركة في البيت العتيق؟ مرد البركة أن المرء لا يعدم العثور فيه على ما يحتاجه نظراً لتراكم خردته ومهملاته، من "زعابيل" السنين و"كراكيب" الدهر، وهو ما لا يتوفر في البيت المشيد حديثاً. 

هذا هو التوجيه الشعبي السائد للمثل، أما في التوجيه العميق، فأظن أن الأمر يعود إلى فكرة البركة المتوارثة من زمن الآباء والأجداد، لجهة أن البيت الذي تقادم عهده ومرت عليه أجيال من أسرة واحدة، تكون قد توافرت له روحانية خاصة زادها الزمن قوة وتأثيراً، وأضفت عليها العواطف والوجدانيات قداسة مضاعفة. 

وهذه الروحانية تنتقل إلى كل محتويات البيت من حجر وبشر، ويختلط في هذا الموقف ما هو سيكولوجي بماهو ميثيولوجي، وما هو ثقافي بما هو أخلاقي. 

في العراق مثلاً يشيع منذ سنوات مفهوم "جيل الطيبين" للتعبير عن الجيل القديم، جيل التلفزيون "أبو قناتين"، والراديو، وهواية جمع الطوابع، وتبادل العشاق للرسائل الورقية المعطرة. 

و للمصطلح إيحاءات عديدة من بينها احتواؤه على شيء من الانتقاد التهكمي للعصر الحاضر، عصر التكلف والمنفعية. 

على أن إيحاءات المثل، بيت العتيك مبارك، قد تذهب إلى ما هو اجتماعي وطبقي أيضاً، فالامتناع عن الانتقال من بيت إلى آخر يعد ثقافة مدينية راسخة، وتشيع في المدن القديمة مثل بغداد والبصرة والموصل وحلب ودمشق والقاهرة، وهي عائدة إلى أن الحضريين لم يتوارثوا سيكولوجيا ثقافة التنقل التي توارثها الريفيون والمنحدرون من البادية، قبل استقرارهم في المدن. 

على العكس، ينزع سكان المدن القدامى إلى الثبات في بيت الأسرة المتوارث لعشرات السنين، وإنني لأتذكر كيف صدمني صديق بصري، عتيق، حين قال لي أن عمر بيتهم يربو على ستة قرون. 

ستة قرون؟

نعم ستة قرون، أي عشرة أضعاف عمر بعض الدول الحديثة، فكيف لا يقال لمثل هذا البيت: بيت العتيك مبارك، ويا عجبي!.