تجربة العلّاق.. مدخل بيئي

ثقافة 2023/05/28
...

 د. كريم شغيدل

 يعد (النقد البيئي) حقلا جديداً في النقد الأدبي، أخذ يتطور منذ تسعينيات القرن المنصرم في الولايات المتحدة الأميركية، وقد بدأت إرهاصاته الأولى مع حركات حماية البيئة، في ستينيات القرن نفسه، واهتمت الأوساط الأدبية والثقافية به، على شكل مقالات فردية في السبعينيات ودراسات أدبية بيئية في الثمانينيات، وقد تجسد الاهتمام المعرفي به من خلال المواد التدريسية، والدورات التدريبية، والتقارير الإعلامية والإعلانات والسياحة، وكذلك التخصصات الجامعية.

 ويذكر أن أول من استعمل مصطلح (النقد البيئي) هو الأميركي ويليام روكيرت في العام 1978، في مقالة له بعنوان (الأدب وعلم البيئة: تجربة في النقد البيئي( وأرى أن هذا الحقل يمكن أن ينضم إلى حقول الدراسات الثقافية من عدة منطلقات، فهو يعالج قضية مدنية أسوة بقضايا المرأة التي انطلقت منها النسوية، ويقترب من مفهوم إدوارد سعيد في ما يسميه بالنقد المدني، فهو يدرس البعد الثقافي في أزمات البيئة كما يقول الباحث الأميركي (ريتشارد كيردج) الأمر الأهم أن تجربة الشاعر علي جعفر العلاق تحيلنا مباشرة إلى البيئة أو الجغرافيا الثقافية التي نما فيها سيرةً وتجربة ووعياً وخزيناً معرفياً ومخيلة، وأعتقد أن هذا سيكون مدخلاً لدراسة هذه التجربة.

     الماء والحجر والريح والشجر، الحصى والتراب والمطر، الليل والفجر، الطير والشمسِ والقمر، وغير ذلك من مفردات الطبيعة التي تجعل قصيدة العلاق رقراقة متحركة متحولة، تصمت حتى يتمنى المتلقي أن يقبض عليها بيده دفعة واحدة، وتهدر حتى ينساب معها لا شعورياً، وهذه السمات أو المهيمنات الأسلوبية التي ميزت تجربة الشاعر إنما تعكس بيئته، فمدينة الكوت التي ولد فيها عبارة عن شبه جزيرة يحيطها نهر دجلة من ثلاث جهات، الداخل إليها سيجد جسر الفيصلية أو سدة الكوت على يمينه وجسر الفلاحية على يساره، وهما جسران على نهر دجلة الذي يحتضن المدينة، وكأني بقصيدة العلّاق شبه جزيرة في بنائها، يلتف المعنى حولها ولا يغلقها، بل يغادرها إلى نهاية مفتوحة، وهذه أمثلة من نهايات قصائده (نرفع للشعر/ شمس الجسد) وهي صورة ذهنية لا تمنح المتلقي نهاية ترتبط ببداية النص الذي تنامت حركته ووصلت لذروات متعددة بتوظيف مفردة (الريح) أو مثل (... آتياً من بقايا بلاد/ وأتت دونما ورق.. ممطر في اليدين/ إنه الزمن الآخر.. اختط دائرة.. واختفى/ أين يأخذنا الليل؟ للنوم؟ للريح؟ أم.. للملاذ.. الأخير/) نهايات مفتوحة، أو بصورة أدق، يسبقها تمهيد لنهاية تبدو محددة، لكنها تنحرف عن مسارها، كما ينحرف نهر دجلة في الكوت قبل اكتمال الدائرة ويعود ثانية إلى مساره.

ونستطيع القول إن شعر العلاق شعر بيئي ذو طبيعة مائية، أو يطغى الماء بوصفه وجوداً ومعنى وصفة وصورة حسيّة وذهنيّة ورمزيّة، مثلما هي قصيدة ريح عاصفة بغموضها الشفاف وغنائيتها العميقة، إذ (تصبح الريح بلادا) كما يقول في قصيدة (حنين الشجرة) وتصبح الريح ملاذاً للبحث عن الذات (أبحث في الريح عني) كما يقول في قصيدة (أنين الحضارات) وفي قصيدة (السماء الأخيرة) تصبح الريح حباً أو هوى أو سراً أو أو وجعاً: (كانت الريح في القلب/ منعشة،/ واتجاه مهباتها منعشاً/ غير أن الأحبة ما شاهدوا الريح/ تكبر في القلب) وفي قصيدة (أيام آدم) تتركب الصور الذهنية والحسية للريح (حينما شاع في الريح عطر رجولته؟) (تنفخ الريح عن دمه/ كل هذا الرماد) وكذلك (تنهب الريح حصتها/ من بهاء الشجر/ كل ثانية/ تقضم الريح ما تشتهي/ من عناد الحجر،) وقوله أيضاً (وحواء وهم/ تجدده الريح في كل أمسية) وتختتم القصيدة بقوله (وانتشرت/ تملأ الريح بالوهم/ والحلم،/ نشوته المربكة ..) أما قصيدة (عكاز في الريح) فهي تحيلنا منذ العتبة الأولى، وقد وظفت فيها الريح بصور متعددة، وأن مفردة (الريح) وحدها بمختلف دلالتها وصورها تمنح أي نص حركية حسية أولاً، وإيحاءات مختلفة بالقسوة والصراع والمجهول والخوف برغم بعض التوظيفات التي تؤنسنها أو تخلق ألفة مغايرة معها، كما أن سيرة الشعر أو القصيدة حاضرة بوصفها مهيمناً دلالياً آخر في شعره، الشعر بوصفه خلاصاً جمالياً، وخلاصة معرفية للتجربة الإنسانية، وهو ما زخر به كتاب السيرة (إلى أين أيتها القصيدة) الذي نال الفوز بجائزة الشيخ زايد لهذا العام.

   الكوت التي ولد وعاش في كنفها الشاعر بقدر ما فيها من ماء، فيها فضاء شبه صحراوي مفتوح يمتد إلى حدود إيران، فقصيدة العلاق ليست قصيدة مدينية أو رعوية، كما لا يمكن وصفها بالريفية على الرغم من ميلها للطابع الريفي، وإنما هي قصيدة طبيعية بيئية، تستمد قوة حضورها ورؤيتها وتركيبتها ومفرداتها من الطبيعة النقية الخالصة، لم تؤدلجها المدينة ولم تترك فيها أثراً واضحاً أو عميقاً للغربة أو صدمة الأضواء، ذلك أن الكوت ليست مدينة خالصة وليست ريفاً خالصاً، فحاضرتها مشوبة بالريفية وريفها مشوب بالتحضر، ليس ثمة فاصل كبير أو شرخ عميق بين الريف والمدينة، يقضي الفلاح نهاره في مركز المدينة التي تعج بالمقاهي والمطاعم، وينحدر إلى أرضه عصراً ويقضي ليله مستمعاً إلى أخبار العالم وغنائه من جهاز الراديو، وربما يكون جهاز الكراموفون دخل إلى ريف واسط قبل أن يدخل إلى بعض المدن.

 ومن خلال هذه الإشارات الموجزة بقراءة مركزة لتجربة الشاعر الكبير علي جعفر العلاق، إنما أردت أن أنبه إلى كون البيئة جزءا لا يتجزأ من السياق الثقافي الذي ينتج النص، ونص العلاق بيئي بامتياز ويعد أنموذجاً لتجربة نقدية في النقد البيئي، كما يمكن دراسة التجربة من منظور لا أعرف إن كان مطروقاً أم لا هو شعرية الريح مثلما درست شعرية الماء، أما عن سيرة العلاق فلم يصنف بكونه ستينياً ولا سبعينياً لأنه ظهر في الستينيات ونشر أول ديوان (لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء) في العام 1973، فلم يتبع الستينيين بأدلجة الشعر وانغماسه بالوجودية وما إلى ذلك، ولم يتبع السبعينيات ابتداء من القصيدة اليومية وانتهاء بالنص المفتوح، فقد كان وما يزال مخلصاً لتجربته الذاتية وللغته الشعرية البيئية الصافية وبناء القصيدة شبه الدائري.