الحقيقة بين الرسم والتفكير

ثقافة 2023/05/28
...

 مايكل ثورن

 ترجمة: مظفر لامي


كيف نتمكن من الوصول إلى الحقيقة من خلال التفكير، كما نتعلم رؤية الوجه بشكل أفضل عند رسمه؟

      لودفيج فيتجنشتاين

تبدو هذه الملاحظة، التي هي واحدة من تعليقات كثيرة لفيتجنشتاين، كما لو أنها أتت من استقراء ذاتي. والإجابة التي قدمها، تشير إلى أنه مهتم بالتعلم من خلال التفكير فقط، وبالتحديد مع نوع التعلم الذي نحصل عليه من خلال التفكير الفلسفي (وليس حقول أخرى، كالرياضيات مثلا). 

ويبدو أنه يتساءل، كيف لهذا التعلم أن يكون ممكناً، وماذا نستنتج من إجاباته؟أتذكر أنني فوجئت عندما تعلمت أين أضع العيون عند رسم وجه، يُنظر إليه من الأمام مباشرة. كان في ظني، أنني أعرف جيداً أن موضعها في الربع الأول من الرأس، لكني عندما نظرت جيدا إلى الوجه الذي أردت رسمه، عرفت أنني كنت مخطئا، فالعيون مكانها في المنتصف. هذا مثال على التعلم من خلال الرسم، فأنت قد يكون لديك تصور مسبق عن شكل أو تفاصيل شيء ما، لكنك حين ترغب برسمه بشكل جيد، تكون مضطرا للنظر إليه بدقة، وعند ذاك، تكتشف أن تصورك السابق كان بعيداً عن الواقع. ثمة فكرة مماثلة تعلمتها ذات مرة من خلال درس رسم آخر، وحينها طلب مني نسخ لوحة لطبيعة صامتة، مع توصية بإتباع أسلوب قلب اللوحة، ورسم ما أراه، ومن ثم إعادة اللوحة المرسومة لوضعها الطبيعي. كان المغزى، أنني إذا نظرت إلى اللوحة بوضعها الصحيح، سأتعرف على الأشياء فيها، وسأمضي بثقة لرسم ما تبدو عليه، كما أعتقد، وليس كما تم تصويرها في اللوحة التي طلب مني نسخها. قلب الصورة رأساً على عقب كان من أجل إزالة ثقتي بأنني كنت أعرف بالفعل، كيف رسم الفنان تفاصيلها، وهذا سيضطرني من ثم للنظر إليها جيداً.كاتب المقالات ديفيد سيرسي كان قد وصف تجربة مماثلة حدثت معه في طفولته، استعاد فيها كلمات معلمه في روضة الأطفال الذي شجعه على الاهتمام بألوان العشب أثناء رسم مشهد خارجي، قائلاً: أوه، لكن تأكد، إذا كنت تنظر للعشب، أن لونه ليس أخضرا خالصاً كما يبدو. هل تعرف ذلك؟ (ربما، كنت أعرف، ربما، بحسب معارفي البسيطة، وكما يعرف الواحد منا، يوجد موت، وتاريخ، وأشياء أخرى يصعب فهمها أو السيطرة عليها، لكن فيما يخص العشب، فهو بلون أخضر، لا يختلف اثنان على أنه أخضر) لكن انظر جيدا، هل ترى؟ ( ... ) أنظر إلى الألوان، انظر إلى كل درجات البني والأصفر، وتبين إذا كنت قادرا على رسمها، هلا فعلت ذلك، حاول أن ترسم العشب كما هو. تبدو لي ذكرى ديفيد سيرسي وتجربتي البسيطة برسم الوجه ونسخ لوحة الطبيعة الصامتة، أمثلة تجسد وجهة النظر التي ترى أن الرسم القائم على المشاهدة الجيدة، يتطلب من المرء أن يتخلى عن ثقته بأنه يعرف شكل الشيء الذي يرسمه، وبذا، تكون محاولته موجهة بمعطيات الشيء كما هو في الواقع. وإذا اعتبرنا أن هذه الثقة هي نوع من الغطرسة، يمكننا القول أن المشاهدة الجيدة أثناء الرسم تتطلب تواضعا تاماً. وهذه الرؤية، توفر لنا فرصة جيدة لفهم ملاحظة فيتجنشتاين التي مفادها أن التفكير المحض لمعرفة الحقيقة في الفلسفة، هو مشابه للتعلم من خلال الرسم، على الأقل، في حاجتهما معا لمواقف مماثلة من التواضع. والخطوة الأولى لتفسير هذا التشابه، تكمن في توضيح ما يمكن أن يتماثل، في الاشتغال في الفلسفة، مع الرسم المستند لمشاهدة دقيقة. 

وهنا نجد أن الإجابة التي تنسجم مع الكثير من أعمال فيتجنشتاين اللاحقة تقول؛ أن الرسم بهذه الطريقة مشابه للكيفية التي نستخدم بها الكلمات. فهو ربما يقترح أن هذه الممارسة، تتطلب موقفا من التواضع، يتخلى فيه المرء عن ثقته بأنه يعرف بالفعل كيف تستخدم الكلمات، وبذا يكون تعاطيه معها، موجه بشكل كامل من قبل استخداماتها الفعلية. في الحقيقة، يدعو فيتجنشتاين صراحة إلى هذا النوع من التواضع في مناقشته، في الجزء الثاني من التحقيقات الفلسفية، لمفهوم (حالة الرؤية) لشيء ما، فهو يحثنا قائلاً: لا تعتقد مسبقاً أنك تعرف ما تعنيه (حالة الرؤية) هنا، دع الاستخدام يعلمك المعنى. لماذا يطلب فيتجنشتاين من قرائه تبني هذا النوع من التواضع؟ وبشكل عام، لماذا نعتقد أن هذا النوع من التواضع ضروري في الفلسفة لتعلم الحقيقة من خلال التفكير؟ المثال التالي ربما يقدم لنا عونا في هذا الأمر؛ لنفترض أننا نريد أن نفهم ما يعنيه أن تكون بصحة جيدةhealthy ، ولأننا نستخدم هذا المصطلح بشكل يومي، نعتقد أننا نعرف بالفعل كيف يتم استخدامه، وتأتي إجابتنا المعتادة أن لا يكون لديك مرض أو إصابة، بينما الاستخدام الأوسع لهذاالمصطلح يشمل الأشياء التي تجلب الصحة مثل بعض الأنظمة الغذائية و أعراض الصحة التي يمكن أن تظهر على البشرة مثلاً. وبذا تكون الإجابة السابقة غير موجهة بالاستخدام الفعلي لهذا المصطلح.هناك شيء مثير للدهشة حول فكرة أننا قد نحتاج إلى هذا النوع من التواضع عند وصف استخدام الكلمات؛ كيف يمكن لنا أن نفشل في معرفة كيفية استخدامها، ومع ذلك نظل مستخدمين أكفاء لها؟ المفارقة في تصوراتنا المسبقة في الرسم تجعلنا أقل حيرة في فهم هذا الالتباس. في كلا الحالتين، لا يكفي قدر من الإلمام بشيء ما لنتمكن من عمل نسخة دقيقة منه، لغويا أو

تصويرياً.